أدبنا الحديث بين الانطلاق والانكماش

أدبنا الحديث بين الانطلاق والانكماش

بقلم : أبو القاسم محمد كرّو


 

الأدب القصصي من أطرف ألوان الأدب ’ وأكثرها دقة في تصوير الحياة البشرية والمشاعر الإنسانية ’ وهو إلى ذلك كله من أشد الأنواع الأدبية تأثيرا في النفوس وإشارة للإحساس وترويحا عن القلوب وتشويقا للقراء .

والأدب القصصي ’ فن من فنون القول الحديثة ’ وفد على العرب مع الثقافة الغربية وكانت الترجمة سبيله الأولى ثم انتشرت الأجنبية بين جمهور الأدباء والمثقفين فكثر بينهم المقتبسون والمحتذون لآثار الأدباء الأوروبيين ’ وخاصة الشعر والقصة.

وقد توسع الأخذ والاغتراف من الآداب الغربية منذ مطلع القرن العشرين ولا يزال الأمر يستفحل حتى أوشك أن يضر بطبيعة نموه وسلامة كيانه ’ وأن يقلل من تقدير رجاله وصدق المنزلة التي يظهرون بها .

وغني عن القول إننا لا نقصد الترجمة الفنية الكاملة للآثار الأدبية والعلمية فهذه ضرورة حيوية لنهضة الثقافة العربية وخروجها من العزلة والجمود والعقم الذي انحدرت إليه وانحبست فيه خلال عصور الظلام والانحطاط التي مرت بها الشعوب العربية .

نحن لا نقصد أيا من هذه الأعمال الأدبية الصادقة ’ التي تقوم على الترجمة والتعريف والاقتباس وإنما نقصد هذه العاهة المستشرية بين عدد غير قليل من المثقفين العرب المعاصرين الذين يغترفون من الآداب الغربية اغترافا غير شرعي حين يأخذون من الآداب الأوروبية أخذا لمّا وينسبون لأنفسهم ما ينسخونه من آثارها .

فقد كتب أحدهم مثلا ’ كتابا كاملا عن الشاعر الانكليزي (وليم شكسبير ) ولم يذكر فيه مرجعا واحدا ’ ولا تحدث عن الوسائل التي مكنته من عمله ’ كأنما هو خواطر وجدانية أو قصيدة شعرية يمكن أن يفيض بها الشعور تمتلئ بها النفس عن طريق الخيال والتجربة.

وهناك آثار علمية وأدبية وفلسفية تزخر بها المكتبة العربية يستطيع النقاد الخبراء والمثقفين العارفون النزهاء ’ أن يعيدوها إلى أصلها الأجنبي وأن يضعوا أصحابها المزيفين أمام ضمير التاريخ وقصاصه .

وأكثر هذه العاهات انتشارا من أنواع الأدب ’ وأخذا واعترافا الشعر والقصة بوجه خاص .

ومن الغريب حقا ’ أن هذين النوعين الأدبيين ’ هما من أقل الأنواع الأدبية احتياجا لمثل هذا الاغتراف الذي يتعرضان له إذ هما يعتمدان على تجارب الأديب الشخصية وعلى إحساسه وملاحظاته الذاتية ومدى قدرته على الاستشفاف والاستيعاب والهضم.

وبالرغم من هذا كله ’ فان نهضة الأدب القصصي خاصة والشعر بوجه عام قد نمت واتسعت في الثلاثين سنة الماضية . وإذا كان هناك عدد من المختلسين والمزيفين ’ فان هناك عددا أكبر وأكثر أهمية من المبدعين والمجددين الحقيقيين . ففي الشعر نجد ايليا أبو ماضي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب والتجاني بشير وكامل أمين وصلاح عبد الصبور ونزار قباني وغيرهم .

وفي القصة نجد نجيب محفوظ والشرقاوي وعبد الحليم عبد الله وذو النون أيوب وشوقي بغدادي وعيسى الناعوري ’ إلى آخر القائمة الطويلة ’ فضلا عن الرواد الأولين أمثال جبران ونعيمة وتيمور والحكيم وهيكل ويحيى حقي .

وإذا عدنا من هذه الجولة إلى تونس ’ نجد عندنا شعراء لهم في التجديد والابتكار مساهمة تختلف باختلاف درجات   ثقافتهم وشاعريتهم ويمكننا أن نعتز في هذا المجال بالشابي وسعيد أبي بكر ومصطفى خريف ومحمد العريبي وعبد الرزاق كرباكة وأحمد اللغماني ومصطفى الحبيب بحري أما في القصة فلم يوجد عندنا -بعد - قصاص أو أكثر يقرأ إنتاجه على مستوى أوسع من النطاق المحلي الضيق ’ ويقف في نفس المستوى أو الشهرة التي وصل إليها كتاب القصة في الشرق.

ولئن كان الأستاذ المسعدي قد أنجب السد فإنها لم تترك من الصدى والأثر في تونس بل العالم العربي ما كان ينبغي لها وما هي جديرة . ولعل مرد ذلك إلى عاملين احدهما لغتها العالمية التي هي فوق مستوى جمهور القراء من المثقفين فضلا عن الطبقات الشعبية التي توجد فيها الكثرة الكاثرة من القراء’ والعامل الثاني يعود إلى ظروف الإقليمية والانزواء التي فرضها الأدب التونسي على نفسه ’ إذ أن معظم إنتاجنا ينشر في الجرائد والمجلات التونسية ’ وهذه لا توزع في البلاد العربية إلا بشكل هدايا على قراء أكثرهم لا يستفيد شيئا منها ’ أما كتبنا القليلة فهي مثل الدوريات من حيث توزيعها الخارجي فإذا أضفنا إلى هذا انكماش الأدباء التونسيين ’ وعدم إقبالهم على نشر إنتاجهم في المجلات الأدبية العربية الواسعة الانتشار مثل الآداب والأديب والمجلة والرسالة والثقافة وغيرها ’ وعدم إقبال أدبائنا أيضا على نشر مؤلفاتهم في نطاق أوسع من الواقع الذي يعيشونه ’ أدركنا الأسباب الحقيقية التي جعلت إنتاجنا محدودا في عالم النشر من ناحية وجعلته إنتاجا إقليميا انطوائيا لا يكاد يعرفه أحد خارج حدودنا السياسية من ناحية أخرى.

وإذا كنا في الماضي نحمل المسؤولية على الاستعمار الذي وضع ستارا حديديا بيننا وبين العالم الخارجي ’ وخاصة العالم العربي - حيث المجال الطبيعي لانتشار أدبنا - فما هو عذرنا اليوم وقد زال ذلك الستار وانفتحت جميع الأبواب المغلقة في وجه انطلاق الإنتاج التونسي والإشعاع الفكري والأدبي لبلادنا وثقافتها ؟

إن الجواب عن هذا السؤال سيكون مختلفا أشد اختلاف من شخص إلى آخر فيما لو حاولنا إجراء استفتاء في الموضوع وحبذا القيام بمحاولة من هذا القبيل ’ حتى تتضح جوانب القضية ونخرج بالثقافة التونسية من ركودها وانكماشها التقليدي الى عالم واسع فسيح ’ وفي هذا ما فيه من الخير والفائدة لتونس الجديدة وللأدباء أنفسهم.

وحين نتابع عرضنا للإنتاج التونسي في عالم القصة  - بعد سد المسعدي - نجد إنتاجا آخر ليس كبيرا في كميته ’ ولا رائعا كله في أسلوبه وموضوعاته كما نجده متقارب في تكنيكه الفني ومستوى الإجادة فيه.

وكل متتبع لإنتاجنا القصصي يجد كثرته الناجحة في الأقاصيص القصيرة والمسرحيات أما القصة والرواية فلا نزال ننتظر الإنتاج ينم عن النبوغ ويقفز بنا إلى خارج الحدود.

وجوائز البلدية هنا ليست دليلا على خلاف ما ذهبنا إليه ’ ولعلها تعزز موقفنا وتؤكد رأينا . وهكذا أصبح من الضروري عرض مشاكل الثقافة في تونس عرضا جديدا ’ والبحث عن العوامل التي جعلت أدباءنا انعزاليين ’ وأدبنا محليا محدود القراء .

إننا دائما نشكو ونتذمر ونقول يجب أن يكون كذلك وكذلك للنهوض بالإنتاج التونسي ولكننا قلما نتجاوز هذه المرحلة السلبية إلى عمل ايجابي يعطي نتائج حقيقية ’ وفي هذا ما فيه من المسؤولية التاريخية في جميع المستويات .

وهذا الوضع جعلنا في تناقض غريب بين أقوالنا وتمنياتنا ومطالبنا من ناحية وبين أعمالنا وانجازاتنا من ناحية أخرى .

ولو أن الأدباء نظموا أنفسهم في حركة ايجابية ’ أو مؤسسة واعية هادفة تعمل على نشر انتاجهم والتعريف به في الداخل والخارج لكان ذلك أجدى لهم ولبلادنا أيضا ’ ولجعلنا ذلك نتحول من طور العالة والسلبية الى طور الاعتماد على النفس والعمل الحقيقي الفعال.

  

تعليقات