أدبنا ...والتمشرق




 

أدبنا ...والتمشرق *

بقلم : جعفر ماجد

فكرت طويلا قبل أن أكتب هذا الفصل لأن لي مع الصفحات الأدبية تاريخا لا أنساه ولعل بعض القراء يذكرون زوبعة قامت منذ عام حول الالتزام وجدتني مضطرا فيها إلى الصمت لما خيرت بينه وبين تشويه أفكاري والسكوت عن التهم الرخيصة . غير أن ابتسامة تلت قراءة فصل من فصول هذه الصفحة لم تخلف في فمي إلا الألم المر فلم أقدر عليه وهممت بالكتابة ثم عزمت في نهاية الأمر لما تأكدت أن داء عضالا أسميه (التمشرق) وقد رسب في نفوسنا كالسوس.

قرأت منذ أيام مقالا كتبه أحد الكتاب على هذه الصفحة عنوانه : (أدبنا بين الانطلاق والانكماش) ’ فما شككت بادئ الأمر أن هذه النون من (أدبنا) تونسية وأقبلت على قراءة الفصل رغم زهدي أحيانا في ألوان من النقد لا أرضاها لأنها تريد أن تحمل أقلام أصحابها فوق ما تحتمل ’ فأخذت أطوف مع الكاتب في ربوع الشرق طواف المتعبد ’ وطال مكوثنا على أعتاب القاهرة  وبيروت ودمشق وبغداد وكنت كلما استرسلت في القراءة وأمعنت الا اشتدت حيرتي وأخذ الخوف على أنفاسي حتى أوشكت على طي الجريدة والفراغ من ذلك الحديث فاذا بالكاتب يدعونا بسرعة إلى التعريج على تونس.

ماذا هنالك ؟ عقم وبوار ..لقد طالت قائمة الشرقيين وامتدت ’ وفيهم من نجلهم حقا أما في تونس فكرباكة وسعيد أبو بكر من أيمة التجديد ونفر آخرون يعدون على أصابع اليد الواحدة نستحي من ذكر بعضهم في عداد الأدباء ...هذا ما وجدنا من التونسيين على صفحة العمل التونسية مع قائمة تمتد من القاهرة إلى بغداد ...

ان غيرتي على نون النسبة أكثر من غيرتي على أدبائنا وهم كثر ...أشهد الله أني لا أقصد الى استخدام السياسة على غرار خصوم الأمس لأن الأمر أخطر من أن يكون حالة عصبية عابرة ولكنه داء مزمن طويل في تاريخنا الطويل.

لقد كانت أنظارنا تتجه إلى المربد والى حلقات المسجد أيام كان هنالك أئمة اللغة والعلم وكان الإسلام يضفي على علوم العربية وآدابها قداسة لا سبيل إلى فصلها عنها ’ فما من فقيه وما من شاعر أو أديب إلا ويحلم بتزكية شرفية  يعلو بها قدره ’ فكانت تشد الرحال الى الشرق للقاء العلماء والتخرج عليهم ’ وكان في نفوس الراحلين من المغرب إكبار لهؤلاء العلماء أسرفوا فيه أحيانا وكيف لا يسرفون وهم تلاميذ مازال بعض المسلمين من العرب الحاكمين يذكرونهم ببربريتهم والشرق مهبط الوحي وموطن اللغة الفصحى ؟ فأصبحوا ينكرون على نفوسهم كل فضل حتى ضج بغوغائهم رجال أذكياء عرفوا كيف يمزقون عن عيونهم غشاوة (التمشرق) وآمنوا بعبقرياتهم رغم حماقة القائل من أهل الشرق - وما بالطبع لا يتخلف - (بضاعتنا ردّت ألينا ) ومن يقرأ (الذخيرة في محاسن الجزيرة ) لابن بسام الشنتريني أو (البديع في وصف الربيع) لأبي الوليد الحميري الأندلسي  يدرك حدة الصراع بين النزعة القومية في الأدب المغربي وتيار التمشرق آنذاك ’ وكان الشرقيون يبالغون في احتقار أهل المغرب بقدر ما كان هؤلاء يجدون في العدو خلفهم للانتساب اليهم والتشبث بأذيالهم ’ فان ابن سهام : ( أما بعد حمدا لله ولي الحمد وأهله والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله فان ثمرة هذا الأدب ’ العالي الرتب رسالة تنشر وترسل وأبيات تنظم وتفصل ’ تنثال تلك انثيال القطار على صفحات الأزهار وتتصل هذه اتصال القلائد على نحور الخرائد وما زال في أفقنا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين وأئمة النوعين قوم هم ما هم طيب مساكر وصفاء جواهر وعذوبة موارد ومصادر لعبوا بأطراف الكلام المنمق لعب الدجى بجفون المؤرق ’ وحدوا بفنون السحر المنمق ’ حداء الأعشى ببنات الملحق ’ فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم وباهوا غرر الضحى والأصائل بعجاب الأشعار والرسائل نثر لو رآه البديع لنسي اسمه أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه ’ ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مرح أو تتبعه جرول ماعوى ولا نبح : إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة ’ حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب وطن بأقصى الشام والعراق ذباب لجثوا على هذا صنما وتلوا ذلك كتابا محكما وأخبارهم الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصية ومناخ الرذية ولا يعمر بها جنان ولا خلد ’ ولا يصرف فيها لسان ولا يد فغاظني منهم ذلك وأنفت مما هنالك ’ وأخذت نفسي الجمع ما وجدت من حسنات دهري وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري ’ غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهله وتصبح بحاره ثمادا مضمحلة مع كثرة أدبائه ووفور علمائه وقديما ضيعوا العلم وأهله ويارب محسن مات إحسانه قبله وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان وخص أهل المشرق بالإحسان؟

( ولست أودعه إلا ما ذكر لأهل الأندلس في هذا المعنى ’ وأما أشعار المشرق فقد كثر الوقوف عليها والنظر إليها حتى ما تميل نحوها النفوس ولا يروقها منها العلق النفيس مع أني استغني عنها ولا أحوج إليها بما أذكره للأندلسيين من النثر المبتدع والنظم المخترع وأكثر ذلك لأهل عصري إن لم تغب نوادرهم عن ذكري ) .

وإذا كان لأجدادنا بعض العذر في تقديس الشرق فلا فخر لمعاصرينا في التشبث بتلابيب قوم لا يؤمنون هم بنفوسهم حتى يزكوا مثلنا في عواصم الغرب ...ولا ينكر أحد أن عظماء الكتاب في الشرق مدينون للغرب بالشيء الكثير . ماذا يكون طه حسين وتوفيق الحكيم وبشر فارس لو أصاخوا إلى دراويش كربلاء وخفافيش  بغداد ...فإذا كانت هذه عيونهم ألسنا نحن أقرب الواردين ؟

لست أدعو إلى قطع العلاقات الثقافية مع الشرق ولكني أشهد أني لا أقرأ البياتي والسياب قبل ايلوار ولا سهيل إدريس قبل سارتر ولا قباني قبل بودلير وأراغون ...فالشرقيون ليسوا نوابغ معصومين لأنهم شرقيون ولسنا بالعاجزين الهالكين لأننا من المغرب ’ فقد عرفناهم في باريس يجلسون إلى رجال لعلنا أقرب الناس إلى فهمهم ’ وسوف يعودون إلى بلادهم محملين بالشهادات الفخرية ويجلسون للعلم والتدريس ’ ولو عاشت الزيتونة لقلت ويؤمهم نفر من تلاميذهم ليسوا دائما أكثر علما ولا ذكاء من الناس ولعلهم لا يحملون إلا شهادة الأهلية أو أكثر منها بقليل ويرجعون من عندهم بالألقاب الفخمة والشهادات واللهجات أحيانا ’ ولكن باب الشرق قد سد عنا رحم الله من سده أما القحط الطويل الذي كانت تشكوه بلادنا فلا سبيل إلى تعداد أسبابه كلها ولعل الاستعمار الفرنسي أن يكون واحدا من هذه الأسباب . فقد كان التعليم الزيتوني ناقصا هزيلا وكان حظ العربية نزرا يسيرا في المدارس فلا ترى هنا وهناك إلا ومضات يطفر بها النبوغ من حين إلى حين ’ بين مدرسين يقبلون على العربية ويشغفون بآدابها وزيتونيين يكتشفون حضارة الغرب فيرتمون على آدابه في نهم شديد . لا أدل على هذا من العاطفة التي تلتهب بها صفحات (الخيال الشعري عند العرب ) لهذا الشابي المسكين الذي لولا نبوغ لا ينكروتطعيم غربي هام لما أتاح لبعض تجار الأدب سوق الارتزاق والشهرة على حساب شعره - وهل أدل على ما قلناه  أيضا من أدب المسعدي ’ هذا المثل الرائع العجيب لامتزاج الثقافتين .

فالعقل التونسي لم يحكم الله عليه بالعقم وحسبك بابن خلدون وهو من تعلم ’ فقد أخصب في هذه التربة علمه الغزير ’ فما الذي يمسكنا إلى الشرق إمساك الطفل الى ثدي أمه فلا نريد أن نرى نفوسنا إلا على مرآته ...صحيح أن حضارة مشتركة طويلة تشدنا إلى بعضنا بعضا إلا أن تعنت بعض خريجي الجامعات الشرقية في إحلال الشرق منزلة المثل الأعلى في الأدب والثقافة لإنقاذ نفوسهم من أمراض نسأل الله أن يشفيهم منها لا يقبل منهم في القرن العشرين .

أما أنا فقد قلتها مرة ريح الأدب والعلم لن تهب من الشرق بل إنني أشمها في أنفاس الملايين من صبيان المدارس ’ أولئك الذين ستخلق منهم ثقافة العصر آلاف المسعدي ’ ولا أقول الشابي لأنه ثمرة بين ثمار الغرب ظهرت في غير فصلها فلم تنضج فلننتظر إلى مطلع الشمس.

 

 

 

 

 

 

* علقت الجريدة على هذا المقال : أثار مقال الأستاذ أبو القاسم محمد كرو (أدبنا بين الانطلاق والانكماش) الذي نشرناه قبل أسبوعين شيئا من التعليق والانتقاد في الأوساط الفكرية وبالرغم من أننا نخالف الأستاذ كرو في بعض الأفكار الواردة في مقاله فقد نشرناه تاركين للقراء الرد عليه ’ إيمانا منا بأن نشر مثل تلك الأفكار التي يعارضها الكثير من كتابنا ثم الرد عليها هو أجدى من عدم نشرها ’ وإيمانا منا بأن النقاش حول قضايا فكرية غير متفق عليها يجعلها تنضج أكثر ’ ويمكننا من التعرف على آراء نخبتنا المثقفة مهما اشتد خلافها وتطرفها أحيانا .

ومن الردود التي وصلتنا رد الأستاذ جعفر ماجد الذي ننشره والذي سيثير  -دون شك - كثيرا من التعاليق وربما سيغضب بعض الناس وتمشيا مع مبادئ الصفحة في هذا المجال فإننا ننشر أيضا ما سيصلنا من ردود معقولة على مقال الأستاذ جعفر ماجد (أدب وثقافة )

تعليقات