آدم فتحي يكتب عن محمد المي (1)

 


فرصة للتعبير عن أمنيتين

 

بقلم : آدم فتحي

 

"كل زمان مصدر للفوائد      ومصدر في العصر غر الجرائد " .

هكذا كتب الشيخ محمد العربي الكبادي (1880- 1961) قبل أكثر من نصف القرن ’ حين كان لا بد من الدفاع عن الصحافة في وجه من اتهمها في لغتها ومضمونها وإيقاعها وتوجهها الاستهلاكي ’ وهي أمور اعتبرها الكثيرون مناقضة لما يتطلبه الفكر والأدب والنقد من لغة ونظر وتأن وإفاضة ومسافة ’ جازمين بأن الصحافة في جانبها المشرق فضاء لا تناقض بينه وبين الكتاب . فقد ساهمت في تطوير اللغة والفكر والأدب عن طريق كتابها الذين أثروا فيها وتأثروا بها . كما أنها لم تكتف بدور "الوسيط "  بين القارئ والكاتب بل لعبت دور "المنتج " أيضا عن طريق الكتاب الذين تعاملوا معها ونشروا نصوصهم على صفحاتها قبل أن ينشروها في كتب.

على هدي هؤلاء سار الباحث محمد المي في كتابه الجديد : منطلقات التنوير في الثقافة التونسية : سير’ صور ’ شخصيات .." الصادر أخيرا (2009) (176صفحة) فقد ولد هذا الكتاب على صفحات الصحافة قبل أن يتحول بكل يسر إلى كتاب يتضمن "بورتريهات " موجزة يترجم فيها صاحبها على طريقته  لأكثر من ستين شخصية من أعلام الثقافة التونسية الراحلين والأحياء ’ قد يختلف نصيب بعضهم عن بعض من حيث النزعة التنويرية ’ وقد لا تصح نسبة بعضهم إلى عبارة  " منطلقات التنوير " إلا على أساس أن التنوير مسار دائم وسلسلة من المنطلقات لا توقف لها ولا نهاية . لكن الاحتفاء بهم يظل عملا ضروريا كما جاء في مقدمة الصحفي لطفي العربي السنوسي ’ لأنه يملأ فراغا عظيما في الذاكرة ’ ويكفي للبرهنة على ذلك أن تستحضر إحدى الصور الطريقة الموجعة التي حفل بها الكتاب ’ صورة الشاعرة زبيدة بشير وهي تقف معلنة أنها حية ترزق بعد أن أطلقوا اسمها على إحدى الجوائز وفي ظنهم أنها فارقت الحياة ...هل من حاجة إلى برهان آخر على ضرورة التوثيق لذاكرتنا بكل الوسائل والمناهج ؟

وفي وسعي وقد جمعتني بمحمد المي الصداقة والرفقة منذ بداياته أن أقول انه توسل في كتابه هذا منهجا قريبا من نفسه ’ فهو حفظة طلعة لا يمل النظر في المصادر مجالسا الشهود ’ منقبا عن الوثائق ’ شديد الاهتمام بالتفاصيل . أحب في الطاهر الحداد رمزا من رموز التنوير في الثقافة التونسية والعربية فاعتنى به وبعصره وبمن أثروا فيه وبمن تأثروا به ’ دون أن يشغله ذلك عن الاهتمام برموز الساحة الأحياء كبارا وصغارا . فكتب المقالات وأعد المحاضرات ونشر الكتب وأثار الجدل . حتى أنه ليحدثك عنهم حديثه عن أحد أفراد أسرته . وهو إلى ذلك لطيف النكتة إذا رغب لاذع القلم واللسان إذا غضب . وقد ظهر كل ذلك في تراجمه هذه فإذا هي وسط بين الجدية والطرافة وبين الإجمال والتفصيل .  وهذا إصداره التاسع إلا أنه أكثر إصداراته التصاقا بالعمل الصحفي والتوثيقي ’ وهي فرصة أغتنمها للتعبير عن أمنيتين :

الأمنية الأولى أن أرى صحفنا تقتنع أكثر فأكثر بتولي مثل هذا الأمر . فهي تنظم موائد مستديرة وتنشر ملفات قيمة وحوارات مهمة ولديها كتاب ومبدعون ينشرون نصوصا فيها من الإمتاع والفائدة ما يجعلها قادرة على الصمود خارج الفضاء الصحفي المحض’ وليس أسهل من تحويل كل ذلك إلى كتب باستغلال ورق الصحافة ومسالك طباعتها وتوزيعها.

أما أمنيتي الثانية فأن أرى المؤسسات المعنية الخاصة والعمومية  تتحد لتوفير ما يلزم من موارد مادية وطاقات بشرية من أجل منح الساحة الثقافية التونسية "معجما للأعلام " بالمعنى التام للكلمة . قابلا للتحيين والمتابعة وأشمل من المحاولات القليلة التي تابعناها على امتداد السنوات الماضية ’ والتي يشكر أصحابها على جهودهم الشخصية . فغياب مثل هذا المعجم ثغرة لا يمكن تبريرها ولا يجوز التمادي فيها .

تعليقات