رسالة إلى محمد ‏المي

أخي محمد،صباح الخير

فور أن فارقتك أوّل أمس شعرت بالحاجة إلى أن أكتب إليك.هل هو وهمي القديم بأنّ الكتابة أقدر على التعبير عني من الكلام؟ أم هو حضورك إلى جانبي أثناء الجنازة حماني وقوّاني فما افترقنا حتى تعرّيت وضعفت؟ أم هو شعوري بأنّك أقوى منّي وأصلب في مواجهة الخطوب والملمات، وإن كنت أعلم الناس بما تنطوي عليه روحك السامية من رقة نفس وطاقة لا حدود لها على مقاسمة الآخرين أتراحهم واستكناه أعماق الألم الإنساني؟ لا أدري... المهمّ أنني لمست في نفسي حاجة إلى أن أكتب إليك وأحدّثك عن أمور لا أتبيّن كنهها على وجه التحديد. ولكن ما راعني إلاّ أنك تسبقني إلى الكتابة ويصل بك الحزن إلى حدّه الأقصى : تمنّي الموت.فأسقط في يدي وزدتني إلى حزني أحزانا
نهضت صباح أمس وفي نيّتي أن أكتب لك فلم أستطع أن أخطّ حرفا ، وبمرور الدقائق أخذ الحزن يتضاعف واشتدّ بي الـألم يكاد يقتلعني اقتلاعا ولم أستطع طيلة اليوم أن أفعل شيئا غير أن أبحلق في الكومبيوتر أتابع ما يجدّ من تعاليق على صفحات الفايسبوك،أقرأ بعضها وأردّ على بعض الأصدقاء. بدا لي أننا في ترديدنا خبر وفاة محجوب ونشر صوره وقصائده ونقل مشاعرنا الفرديّة كنّا أشبه ما يكون بقطيع من الحملان تاه عن راعيه ذات غروب في قفر مهجور يسكنه الذئب الأكبر : الموت. في أثناء ذلك لم ينقطع شريط الذكريات عن العدو في أزقّة مخيّلتي عدوا لولبيّا مجنونا. تذكرت كلّ لقاء وكل حديث وكل كلمة وكل رسالة وكل ضحكة وكلّ تنهيدة ألم وكل نص أدبي وكل حلم بنص أدبي...جمعتني بمحجوب منذ أن عرفته أوّل مرة في 30 مارس 1988إلى آخر مرة رأيته فيها يوم 13 مارس 2010 وكان الأدب سبب لقائنا في المرة الأولى وكان الأدب سبب لقائنا في المرّة الأخيرة...تذكرت كلّ شيء.. تذكرت لقاءاتنا في صيف 1988 ببنزرت أثناء استعداده للزواج ومساعدتي إياه على إعداد الشقة في عمارة وراء قصر المؤتمرات، تذكرت فرحته التي لا توصف عند قدوم بكر أبنائه "غيث" هذا الذي سيقول لي عنه بعد ذلك بسنوات إنّه هو من يحميه ويذود عنه في وجوه الأشرار، وتذكرت حزنه الغتيت الذي أفزعني وأرعبني بعيد حرب الخليج الأولى وكان قد زار قبلها بسنة العراق وأحبّ العراق والعراقيين وقد وصل به الحزن إلى إعلان كفره بالأدب والشعر والكتابة وتصميمه على أن يتلف كل الكتب التي يملكها،تذكرت لقاءاتنا مساء كل خميس أيام دراستي الجامعيّة فكنت أنزل وأنا في طريق عودتي من تونس بمنزل جميل فأقصده إلى المكتبة العمومية أو في " مقهى يوسف" حيث ينضمّ إلينا أحيانا المرحوم عبد الله صولة والقاص عليّ بن مصطفى، تذكرت قراءتنا نصوص بعضنا بعضا في بيته أحيانا وفي المقاهي أحيانا وعلى حافة البحر أحيانا أخرى وتذكرت قسوتنا بعضنا على بعض ومطالبتنا أحدنا الآخر بأن يعطي الكتابة أفضل ما عنده، كل أقاصيص مجموعة "الورد والرماد" قرأها حرفا حرفا وقرأت له بل وحفظت حرفا حرفا قصائد مجموعتيه "حرائق الصباح حرائق المساء" و" اقمار لسيّدة الشجرات"أما قصيدة الطفل ، درّة أشعاره فقرأها لي على الهاتف ذات ليلة شتائيّة باردة،تذكرت فرحه الشديد بصدور مجموعتي "الورد والرماد"واحتفاله بها كأنّها كتابه ومسارعته إلى تنظيم لقاء أدبي حولها بنابل فكان أوّل مواجهة لي مع الجمهور أنا الذي ما أزال طفلا أتلعثم في خجلي،تذكرت جنونه بروايتي " حروف الرمل" ومواظبته مدة طويلة على حملها معه أينما ذهب وقراءته منها لكل من يلقاه ،مبشّرا بي "نبيّا للرواية التونسية" كما كان يقول..آه يا مجحوب لعلني خنت بشارتك..تذكرت فوزنا معا في سنة واحدة(1994) بالجائزة الوطنية للإبداع الأدبي هو في الشعر وأنا في القصة القصيرة، وتذكرت المصاعب المالية التي عاشها في فترات مختلفة من حياته وشكواه الدائمة من لعب دور الفنان "اللي عاش يتمنى في عنبة"،تذكرت مكالمته إياي على الهاتف بعد دقائق من إعلان وسائل الإعلام خبر وفاة محمود درويش وصوته الحزين الذي يكاد ينهمر من سماعة الهاتف دموعا مدرارة وقوله : أنا اليوم يتيم.. تذكرت ولعه مدّة من الزمن بالصيد وقد رافقته مرات إلى شاطئ نابل يحمل صنارة وطعما ولا أدري إلى اليوم أكان يصطاد سمكا أم قصائد؟ كان يتّخذ للصيد طقوسا ويتأهب له تأهب الذاهب إلى حفل زفافه وكان ينتبه لأيّ حركة تندّ عن الصنارة ويحتفل بها، أمّا إذا حدث وساقت المقادير إليه سمكة فهي النشوة الكبرى، فيطير مرفرفا كالعصفور وينطلق لسانه بالشعر،وتذكرت آخر لقاء مطوّل بيننا في السنة الماضية إذ قضيت معه  يومين بنابل فاصطحبني إلى البستان الذي اشتراه مؤخراوكانت معه بعض الشجيرات . فلا أدري أيضا أغرس حينها شجرا أم شعرا؟ كان يضفي على كلّ حركة يأتيها من الحفر إلى تهيئة التراب والسماد والغرس أبعادا وجودية وشاعرية احتفالية لم تجعلني أشكّ لحظة في أنّه إنما كان يكتب قصيدة وهو منكبّ على الطين والنبت..رحم الله محجوب كان يرى الشعر في كلّ تفاصيل الحياة ودقائها وحتى إذا كانت الحياة عارية من الشعر ألزمها بأن تلبسه وتستتر بها .عرفت شعراء آخرين لكنني لم أعرف واحدا كمحجوب يهجس بالشعر في كلّ لحظة وآن ويحمله معه حمل المرء اسمه أو وجهه. كانت عروقه تسيل شعرا لا دما

تذكرت وتذكرت وتذكرت وفي لحظة ما كخاطفة البرق، لمعت أمامي حقيقة كنت غافلا عنها لعلّها أبرز ما يميّز محجوب.إنّها حقيقة حبّه الحياة وتمسكه بها وتعشّقه إياها تعشقا. نعم يا محمد لقد بتّ اليوم مصدّقا للحكمة القائلة بأنّنا لا نعرف أحبابنا أتمّ المعرفة إلاّ حين يفرّق بيننا الموت. نعم فرغم ما يرين على أشعاره من حزن وألم وحنين ورغم ما توحي به نبرة صوته من شجن، فقد كان يحبّ الحياة ويحرص عليها ويستقبلها كل يوم استقبال طفل خالي الذهن من شبح الموت. ولعلّ الكتابة ما كانت عنده إلاّ تعبيرا للحياة عن حبّه لها وتذكيرا لها بأنّه ما يزال منغرسا في تربتها تنضح شرايينه بدماء حبرها وشعرها.
فلا ينبغي لنا يا محمد ولا يحقّ لنا أن نفكّر في الموت ولا حتى أن نعيره بالا.أنا كما تعرفني أقرب إلى التشاؤم منّي إلى التفاؤل وآلف بالحزن مني بالفرح ومع ذلك ويا للغرابة،وجدتني أستمدّ من لوعتي على محجوب طاقة رهيبة على الحياة والكتابة والإبداع.
نعم يامحمد لنتّخذ من وفاة محجوب رمزا ورسالة والتزاما بيننا ولنسع بكلّ ما أوتينا من قوة سعي المجاهد في سبيل قضيّة نبيلة إلى تحقيق كلّ أحلام محجوب أحلامه لنفسه وأحلامه لنا. فمن نبل محجوب أنّه كان يحبّ نصوص أصدقائه كما يحبّ نصوصه ومن نبله أنّه كان يحلم بالمجد لأصدقائه كما يحلم به لنفسه . لنعمل في كل يوم على التعريف به وبشعره ولنسع في كلّ ما نكتب إلى أن نكون أوفياء لذكراه...
هذا بعض الألم الذي عشته في هذين اليومين وبعض ما أردت أن أقول وأكتب ، لم أجد أحدا غيرك يا محمد في هذا العالم أقدر على سماعه وفهمه وأصبر على هذيانه وقد جمعت بيننا الآلام في الماضي وصهرت روحينا برباط من الحبّ لا فاصم له...
أخوك محمد آيت ميهوب  

تعليقات