‎ثمة ‏شيء ‏ما ‏

بقلم : محمد المي


وأنا أتجول في معرض أحمد الزلفاني حضرت في ذاكرتي البصرية أعمال الفرنسي ذي الأصول اليابانية ليوناردو فوجيتا (ت1968) وحضرت أعمال النحات جياكوميتي وحضرت أعمال الصادق الماجري والصادق قمش وبيكاسو... وسيطر علي شكل احمد الزلفاني نفسه بقامته الطويلة ونحافته ووجهه المميز .

معرض الزلفاني يضم شخوصا تطول وجوههم وتطول قاماتهم النحيفة فيشدك طول القامة والتعبير الباهت للوجوه الكئيبة الذاهلة، الشاردة ،الناظرة ، الباهتة، المستغرقة في صمتها والمستكينة الى ذاتها كأن لا علاقة لها بما يحدث الأن وهنا ؟ 

الوحدة والتفرد والذهول والبهتة هي التي تترسخ في وجوه نساء ورجال احمد الزلفاني .

يزاوج الفنان بين الصورة الفوتوغرافية والالوان التي يضيفها حتى لكأن الصورة الفوتوغرافية جزءا من الخامة أو لكأنه قدها بأنامله فاستوت كاملة غير مركبة لا تنافر فيها ولا تضارب ولا نشاز بل وحدة واتصال وتناسق واتساق ...مدهش صبر احمد الزلفاني على اللوحة ..وقدرته على تطويع اجزائها حتى انقادت إليه رغم اقتصاده في الألوان معتمدا القيم الضوئية (الأبيض والأسود) أحيانا .

احجام مختلفة من اللوحات من الصغرى إلى الكبرى ولا فرق بين هذه وتلك ....عمل الفنان فيها واحد وجهده واحد وصبره عليها واحد .

في لوحاته عوالم ورؤى حتى لكأنها اذا جمعت كلا كانت ارخبيلا ... وكل لوحة هي جزيرة مستقلة بذاتها .

تتوزع ذات الفنان في ذوات لوحاته فقد أعار كل لوحة قليلاً منه : 
أُقَسِّمُ جسمي في جُسومٍ كثيرةٍ        
                          وأَحْسُو قَرَاحَ الماءِ، والماءُ بارد

قالها عروة بن الورد أو عروة الصعاليك منذ زمن وهل ان الزلفاني يعيد صياغة الشعر ألوانا .

كثير من الشعر المتدفق في لوحاته . 
كثير من الموسيقى المنسابة منها .
فنون متعددة تحضر فيها كالمهرجان الصامت تماما . 

يحنو الفنان على شخوص لوحاته حنوا ويهتم بكل تفاصيلهم من أعلى الرأس إلى أسفل السافلين فلا ظل لأغلبهم وهم فرادى حتى في تعددهم ...غربة بادية للعيان وتوحد فاضح غير متهيب لرأي ... " كل في شأن يغنيه " .

مراجع الزلفاني كثيرة في عمله وان تستر عليها وقد تعمد نسيانها مقدرا ان الثقافة هي كل مانتعلمه بعد أن ننسى كل شيء. لكأنه خلاصة عدة أصوات وليس صداها .

رغم الوحدة ورغم الصمت فان ثورة معلنة وتمردا فصيحا في كل اقتراح جمالي يقدمه الزلفاني . يعي ما يفعل .

تغلب الصنعة وتختفي العفوية في كل لوحاته فلا ارتجال ولا عفو خاطر ولا الصدفة هي التي فعلت فعلها بل تخطيط وتنفيذ ووعي بالجمهور الناظر والاخر المتبصر بالعمل الفني والواقف على تخومه عن كثب.

كأن حوارا بين الفنان وشخوصه قد تم وانتهى وحكاية بينهما لم يحضرها ثالث ولا يستطيع أن يستدرج كان من كان الفنان أو لوحته ليقولا له عما كان بينهما . سر خفي لا تجهر به اللوحة ولا يقوله الفنان ولا يدركه قارئ العمل .

عصية هي قراءة لوحات الزلفاني رغم بساطة ماتبدو عليه وحلاوة ما تظهر عليه .لا تتيح نفسها لمن يشتهيها بل تتحفظ وتسعصي ولا تخون صانعها .

ماذا كان بين الفنان الصانع وموضوع اللوحة ؟ حوار؟ زواج متعة؟ خصام؟ بوح؟ شكوى؟ ثمة شيء ما .

ثمة جهد 
ثمة فن 
ثمة ما يملأ العين ويؤثث الحضور 
ثمة معرض جميل في مدينة الثقافة للفنان الكبير احمد الزلفاني فشاهدوه وتعلموا منه يرحمكم الله.


تعليقات