الأرشيف السينمائي الوطني في مهبّ الرّيح... ! ؟ - 3 ‏


الأرشيف السينمائي الوطني في مهبّ الرّيح... ! ؟  - 3 -


في الحلقة الثالثة والأخيرة من الموضوع الذي
 خصّصته للأرشيف السينمائي الوطني يؤسفني أن أُقرّ بأنّ كلّ المؤشّرات تفيد أن لا حلّ في الأفق لمسألة الأرشيف السينمائي الوطني الذي سيذهب هباءً منثورا 
للأسباب التالية :

- برهنت السلط العمومية وتبرهن كلّ يوم أنّها غارقة في العجز وغير قادرة على إنجاز شيء ذي بال في أيّ قطاع من القطاعات سوى الفرجة على الانهيار الذي طال كلّ المجالات. وما التخبّط والارتجال في إدارة - أو بالأحرى عدم إدارة - أزمة الكوفيد إلا دليل صارخ على ذلك.

- في ميدان الثقافة والفنون، بشكل خاصّ، فإنْ غياب الإرادة السياسية في النهوض بالقطاع الثقافي أمر ملموس ولا يحتاج الى براهين وبقاء وزارة الثقافة بلا وزير طيلة عدّة شهور خير دليل ذلك. حتّى الإنجاز الوحيد الذي يحلو لبعض المسؤولين التفاخر به (مدينة الثقافة) فهو إنجاز يُحسب لحقبة الدكتاتوريّة حسب أدبيات الثورجيين التي جعلت أحدهم عندما جيئ به من كمبوديا ليشغل منصب وزير للثقافة في حكومة المرحوم الباجي قائد السبسي ،يصرّح بأن تلك المدينة، بضخامتها وهندستها، ذات طابع ستاليني في إشارة إلى يوسف ستالين الزعيم السوفياتي الذي تصدّى للغطرسة النازية وأنقذ البشريّة من مصير بائس . ويوسف ذاك، رحمه الله، يصنّف ايضا في أدبيات الحقوقيين دكتاتورا. وكم نحن في حاجة إلى واحد من طينته ليعود للبلاد مجدها ( أغلق القوس الذي كان لا مناص من فتحه).

- عدم إدراك النخبة السياسية وأصحاب القرار للدّور الذي يمكن أن تقوم به الثقافة في ترسيخ الهويّة الوطنية وغرس وتنمية الإحساس بالانتماء للوطن لدى أبناء الشعب من خلال إبراز وتثمين الخصوصيات المرتبطة بتراثنا المادي وغير المادي.
- انصراف العمل الثقافي إلى ماهو ترفيهي وأحيانا تهريجي واستهلاكي يستجيب لرغبات الجمهور الذي أغرقته العولمة في أنماط فنيّة وتعبيرات لا ترتقي بذائقته بل تزيد في تدهورها.
في هذا الخضمّ يصبح الحديث عن الأرشيف السينمائي وضرورة إيلائه العناية التي يستحقّ نوعا من النوستالجيا والحنين إلى ماض انقضى ولا يرغب أحد في إحيائه بل هناك من يعمل جاهدا على قبره في إطار السياسة الممنهجة لتدمير كلّ ماهو إيجابي في هذا الوطن. وليس أدلّ على ذلك من إهمال الاحتفال بالمناسبات الوطنية وبالشخصيات التي ساهمت في بناء الدولة وإثراء الثقافة التونسية.

ولأنّ الأرشيف السينمائي الوطني فيه الكثير ممّا يوثّق لإنجازات الدولة الوطنية في شتّى المجالات رغم تواضع الامكانيات ومحدودية الموارد، ويبرز ما تميّزت به الدبلوماسية التونسية من حصافة وبعد نظر وقدرة على الاستشراف فإن تجاهل ذلك الأرشيف خيار مبدئي لدى من يتحكّمون اليوم في رسم الخيارات وفرضها.
الأرشيف السينمائي الوطني، لو أتيح للنّاس الاطلاع عليه، فسيلمسون كيف أنّ الدولة الوطنية راهنت على قدرة الصورة على أن يكون لها دور تحسيسيّ فعّال  في حملات مكافحة الأمراض السارية التي كانت منتشرة بشكل واسع في المدن والأرياف مثل الجرب والرمد والجدري والحصبة والسلّ الشلل. وسيلمسون بلا ريب ،مدى ما كان لتلك الأفلام التوعويّة من أثر في انخراط الناس في السياسات العمومية التي اقرّتها الدولة الناشئة في ميادين التعليم والصحة وتحرير المرأة وتحديد النّسل وإعلاء قيمة العمل  وتحسين جودة الحياة.

الأرشيف السينمائي الوطني لو خرج للناس فسيدركون ما بذلته الدولة الوطنية من جهد ليكون لها حضور في افريقيا، فقد تمّ توثيق الجولة الافريقية التي قادت الزعيم بورقيبة إلى عدد من الدول الافريقية، كما تمْ توثيق زيارته التاريخية إلى الشرق الأوسط سنة 1965  وخطابه الشهير في أريحا، فضلا عن مشاركة تونس في مؤتمرات حركة عدم الانحياز في باندونغ وبلغراد حيث كان الزعيم حاضرا مع زعماء ذلك الزمن مثل يوسف تيتو ونهرو وجمال عبد الناصر.

لو أتيح الأرشيف السينمائي الوطني للناس فسينبهرون بما قاله طه حسين في زيارته لبلدهم سنة 1957  " ان بلادكم تونس قد سبقت البلدان العربية جميعا، لا أستثني بلدا ،إلى هذا الذي طالما صبا إليه المصلحون.". كما سيندهشون  للشجاعة التي كانت تواجه بها بلادهم الكوارث الطبيعية مثل فيضانات 1968 وسنوات الجفاف المتتالية في نهاية الستينيات. ولو أتيح ذلك الأرشيف للباحثين المتخصصين في تاريخ تونس الحديث فسيجدون كثيرا من الإجابات للأسئلة التي ظلّت معلّقة حول محطّات هامّة في تاريخ بلادنا مثل مسألة التعاضد ذلك  أنّ محاكمة أحمد بن صالح قد صُوّرت بالكامل وظلّت مادة خاما سيكون المؤرخون سعداء بالنفاذ إليها.

ويمكن أن أُسهب في تعداد الكنوز التي كان يحويها الأرشيف السينمائي، أقول كان، لأنني لست على يقين من أنّ يد العبث أوالإتلاف أو الاتّجار لم تمتدّ له. وهي كنوز أتيح لي مشاهدة بعضها في مخابر الساتباك بحكم عملي مسؤولا عن الإنتاج في الشركة طوال العشرية 80 —90.

وما يحزّ في النفس ويدمي القلب هو أنّني أَجِدُني مضطرّا إلى أن أنعى لكم ذلك الأرشيف الذي لن يرى النور بسبب غياب الإرادة السياسية وانعدام التخطيط واستقالة السلط العمومية وتخلّيها عن دورها كحارس للذاكرة الوطنية.

ما أمرَّ وأقسى أن يصل المرء إلى هذا الإستنتاج الذي يوشك ان يكون حقيقة راسخة في ظلْ التخبّط والعجز الذي تعرفه الإدارة التي منوط بعهدتها صيانة الأرشيف ورقمنته ،أعني الادارة العامة للفنون السمعية البصريّة التي أتحدّي المسؤول عنها أن يفنّد ما أقول بأدلّة ملموسة تُفحمني وتُلقِمُني حجرا.

ألا قد بلّغت،اللّهمّ فاشهد. 

راضي تريمش.

تعليقات