شريدة أو تغريبة البحر ...مأساتنا2


بقلم : محمد المي 




الديكور

لقد اختار وسام الغريبي ديكورا لا غرابة فيه ينسم وانتظارات المتلقي بل منذ البداية يدخل المتفرج / المتلقي في أجواء البحر فكأنك في ميناء حقيقي ترسو فيه السفن الراسية سواء المستعدة للخروج إلى البحر أو التي جاءت لتوها لترسي في الميناء وعمل على عرض صناديق السمك الفارغة إمعانا في تأكيد خيبة ما نشاهد فليست هي ممتلئة بل تدل على خيبة البحارة الذين عادوا من البحر بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها .

هذا الديكور الذي كثّف فيه من الشباك إلى درجة تشابكها في بعضها البعض وتشابكها في ملابس نوح - في كثير من الأحيان - وقد يكون التشابك ذاك ناتج عن الصدفة التي لم يقرأ المخرج لها حسابا ولكن تلك الصدفة زادت في جمالية الديكور ووظيفته لأن نوح لا يستطيع أن ينفك عن البحر والبحر لا يريد لنوح أن ينفك عنه حتى غدت العلاقة بينهما مرضية اذ يصفه حسام الغريبي في مشهد بديع يقول :

نوح دخل للبار ..كعبة كريرو عالكنتوار وبعد عشرة قزاز درجين بالمنقالة صفن على مقادفو زشبّر فينا العينين

نوح : قوم يابحري ياولد صفر وانت ياولد شيخ الهدة (....)

راح نوح كالمسعور يستنهض همم الرجال ويدفعهم الى الخروج الى البحر هائجا مائجا وكأنه يقبل على معركة حامية الوطيس .

هذه الأجواء ذكّر بها في ديكور سمح بها لأننا منذ البداية ونحن في انتظار انطلاق المسرحية نلحظ نوحا يجلس على حافة الميناء يشرب قارورة خمر "كريرو" (أي دون كأس) وحياة البحّار لا يمكن أن تكون دون خمر لأن الخمر يقتل الخوف في داخله ويجعله منفصلا عن الواقع .

حياة البحّار ليست كحيوات الناس هي حياة أخرى اذ يأتي عليه زمن ينفصل فيه عن اليابسة ويكون في رحاب الماء ولا شيء غير الماء لا مجير له ولا منج له من الهلاك وعليه أن يحدّد اتجاه سيره واتجاه عودته وإلا فانه يضيع ويتلاشى في البحر .

البحر مفازة (قل من يفوز بنفسه فيه) فإذا عاد بعد غيبة فانه ممن كتبت له حياة جديدة فهو بهذا يموت ويحيا ...لذلك فان

عيش الفتى في سكرة بعد سكرة     إذا طال هذا عنده قصر العمر

يمكن القول ان الديكور كان شخصا آخر إلى جانب الشخوص وقد لعب دورا في مسرحية "شريدة " دور المساعد على وضع المتفرّج في صلب العملية الإبداعية وهنا نلمس جدية الطرح الذي قام به حسام الغريبي .

الموسيقى :

منذ البداية نسمع أزير صواري السفن وصوت الموج يراقصها وقد تواصلت هذه الموسيقى ولم تنقطع الا على صوت نوح وهو يغني على "طير البرني " من التراث الشعبي المهدوي وقد اضطلعت المسرحية بدور التوثيق لهذا التراث الشفوي سواء من خلال الأغاني التي تردّدت بأصوات الممثلين أو من خلال استعمال مصطلحات غارقة في المحلية أو من خلال ألقاب أبناء المهدية ..

فضلا عن الموسيقى والغناء فان اللغة أيضا كانت لها موسيقاها سواء بالسجع الذي تعمده حسام الغريبي وكأنه لا يكتب مسرحية بل يكتب قصيدة شعرية أو من خلال الترجيعات ( تكرار بعض المقاطع ) تماما مثلما يفعل الشاعر لإحداث موسيقى خارجية .

الإضاءة :

لقد عمل حسام الغريبي على أن تكون الإضاءة خافتة جدّا حتى يهيمن الظلام على أجواء المسرحية

الموت أسود وهي مسرحية الموت بامتياز

ثلاثة أيام تعدات

البلاد سواد مداد رماد وجمر وفاطمة الزهراء في قلب البحر

لا حس لا خبر

التخفي في الظلام وهي مسرحية يمكن القول ان الخفاء هو بطلها الرئيسي

لبست برقع

ماش مايعرف صمايلي حد

لاني أنثى لاني ذكر

زنس بشر ما يعقلني

كل هذه الأجواء لا تسمح إلا بإضاءة خافتة لتضفي على الجو مهابة وتزيد في الغراب وتمعن في الإبهام .

الظلام ولا شيء غير الظلام في علم تفوح منه رائحة الموت كواقعنا الذي نعيش ونحيا لا نور فيه ولا ضوء يرشدنا أو يدلّ علينا ونحن على ما نحن فيه لا نكاد نعرف أنفسنا ولا يكاد يوجد من يقدر على التعرف علينا نحن من نحن؟ انتهت بنا الرحلة بعد فشل وبعد خيانة من داخلنا . بعد نكسة انتكسنا فيها وما كنا نظن أننا سننتكس .

كأن عودة البحّارة وقفة تأمل أو محاسبة للذات أو مراجعة لواقع ما كانوا ليفيقوا عليه لولا فاجعة الموت التي حلّت بهم والخراب الذي خلّفه أول خروج لسفينتهم التي لم ترجع معبّأة بخيرات البحر ولا بأجساد الرجال الذين امتطوها ؟

مرارة لا تقل عن مرارة واقعنا ومأساة لا تختلف عن التعريف الأول لكلمة المأساة الذي هو خوض صراع غير متكافئ بين الفرد والجماعة أو القوى الغيبية الذي ينتهي فيه الإنسان مهزوما بالضرورة

نوح بطل هزمه الواقع ’ هزمته خيانة ذوي القربى ’ هزمه البحر الذي لا يرحم ويكره من يتحدّاه ...تضافرت عدة قوى لتهزمه فانتهى خائبا ينوح كالثكالى

خاتمة القول :

مسرحية رائعة من روائع المسرح التونسي الجديد ومحاولة انتهى فيها مخرجها عكس نهاية بطل مسرحيته . تكاملت فيها عناصر الشكل مع المضمون ’ متطلبات الإخراج المسرحي مع الحكاية فكانت عملا يستحق التشجيع والثناء

شكرا حسام الغريبي 

تعليقات