شريدة أو تغريبة البحر..مأساتنا

           


بقلم : محمد المي 

  ما سأكتبه عن "شريدة " حسام الغريبي هو محاولة لتفسير انبهاري بعمل مسرحي تونسي بعد أن ساورني اليأس في المسرح التونسي الجديد الذي يقدمه جيل جديد من المسرحيين الجدد.

            شريدة كتب نصها وأخرجها حسام الغريبي وهي كذلك أول مسرحية ينتجها مركز الفنون الدرامية والركحية بالمهدية منذ تأسيسه إلى اليوم وقد وقع تقديم المسرحية ضمن الدورة الثالثة لتظاهرة "مسارات المسرح " في دورتها الثالثة .

ملخص المسرحية :

           قام كل من : محمد قريع ومحمد عجاج ومحمد خميس بآداء أدوارها المتمثلة في صراع بين ثلاثة إخوة ورثوا سفينة / فلوكة ( اسمها فاطمة الزهراء)  صيد عن والدهم فدبّ بينهم شقاق حول من يكون ربّان السفينة / الريّس وكانت النتيجة أن كان "نوح " الشقيق الأكبر هوالريّس الذي سيبحر بفاطمة الزهراء وبحارتها لاستخراج خيرات البحر فما كان من شقيقه الأصغر واسمه " سنوبري " إلا أن قام بإفساد محرك الفلوكة لتغرق في عرض البحر الذي التهم أكثر من عشرين بحّارا دفعة واحدة فيعود الأخوة الثالثة وقد نجوا من الغرق وينتشر الخبر في المدينة التي تعيش أياما من الحزن والأسى عن أبنائها الذين التهمهم البحر مما يستوجب فتح بحث بوليسي لمعرفة أسباب غرق السفينة وتحديد مسؤولية الجميع عن الكارثة الحاصلة فيما يفتح الإخوة الثلاثة تحقيقا بينهم  ليكتشفوا في النهاية أن الفاعل هو أصغرهم بسبب الغيرة والحقد والحسد  .

الإخوة الأعداء ؟

قابيل وهابيل ؟

مسرحية أحداثها مأخوذة من واقع يعيشه أبناء المهدية التي لا ننفك عن مطالعة أخبار تعلن بين الحين والآخر عن غرق لثلة من بحارتها وسفنهم حتى بات الموت ملازما لحياة أهلها وناسها وكأن الحداد كًتب عليها والسواد جزء من ثقافتها فلا يمكن أن تعيش إلا برائحة الموت (السقيفة الكحلة ) أليست هي عاصمة الدولة الفاطمية ؟ الدولة التي تعيش حزنا أبديا جراء عدم نصرتها للحسين بن علي ؟ فترى نساءها مجللات بالسواد ؟ .. لعل المهداوية ورثوا الحزن عن أجدادهم الفاطميين وألفوا الموت الذي أصبح جزءا من ثقافتهم .

" شريدة " مسرحية الحزن التي تفوح منها رائحة الموت .

البحر لعنة :

يصرخ نوح ربّان السفينة  :

"جهنم في البحر

ماهياش في السماء "

وما صرخة نوح تلك إلا مقدمة لتعريف من تعريفات البحر في مسرحية "شريدة " وهو عند يونس (الشقيق الأوسط) :

" البحر كلامو في أرحامو

سرو في قلبو في دعازق طحشو

في صحاري كرشو

البحر بلا صاحب كبوّل

البحر كفنو في كفو "

حتى السنوبري (الشقيق الأصغر ) :

"البحر كيف قبضة الماء في اليد "

           على ألسنتهم تقال هذه الكلمات ورغم هذا الإجماع على هول البحر ومصائبه فان البحّار كالفراشة التي تظلّ تطوف بالنور حتى تحترق بناره إذ لا خيار للبحار إلا ولوج البحر وتحدّي أمواجه وتجاهل أهواله للغوص في أعماقه والاسترزاق من خيراته .

وإذا كان البحار يدرك منذ البدء ماهو مقبل عليه ضاربا عرض الحائط بما يعرف من مصائب تنتظره وأهوال سيلاقيها حتما وهو مقدم على ماهو مقدم عليه يقدّر أيضا أن مصائب أخرى تنتظره لا يخفيها البحر بل يتأبطها البشر إذ على ريّس البحر أن يدرك مسبقا كل ما يمكن أن يعترضه ويعرقل سبيله وهو داخل إلى البحر فانه لن يصارع الأمواج المتلاطمة فقط بل سيصارع الإنسان .

خديعة نوح لم تكن من غريب لا يعرفه بل من شقيق تجري في عروقه نفس الدماء التي تجري فيه :

"ضعت وضيّعتنا

ياسنوبري يا ولد أمي

يا اللي دمك من دمي

دوانه

خيانة بلا فيانة

خليتني اندور في البلاد

كيف الولية لابس برقع

يا ليتني نتفرقع

ذبحتني والسكينة حافية "

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة         على المرء من وقع الحسام المهند

الإخوة الأعداء ؟

قابيل وهابيل ؟

الرموز والدلالات في "شريدة " حسام الغريبي

تكتظ الرموز والدلالات في مسرحية "شريدة " إذ عمل حسام الغريبي كاتب النص على انتقاء كلماته ومصطلحاته بدءا من أسماء الشخوص المجسدة للأدوار في مسرحيته

فنوح يذكرنا بالنبي نوح عليه السلام صاحب السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين ولئن كانت سفينة نوح النبي سفينة نجاة فان سفينة نوح هذا سفينة هلاك انتهت بموت بحارتها غرقا .

أما يونس فهو النبي الذي ظلم نفسه فعاقبه ربه بأن تركه في بطن الحوت زمنا لا يعلم مقداره إلا الله .

أما السنوبري الشقيق الأصغر فهو اسم الولي الصالح المشهور في ربوع المهدية الذي تفتح زاويته المشهورة على البحر فيستنجد به البحارة في ذهابهم وايابهم حتى سمى بعض الناس أبناءهم على اسمه تبركا به وطلبا للحصانة من كل مكروه

حتى السفينة اختار لها حسام الغريبي اسم  " فاطمة الزهراء " وليس الاختيار اعتباطيا بل يتوافق مع عاصمة الدولة الفاطمية أيام كان شيعة رسول الله بها ينشرون مذهبهم فيها وبقي من ذلك التراث ما بقي متلاشيا في الأسماء وبعض العادات والتقاليد .

الاسم يوحي ويحدّد ويفتح شهية القراءة كما يقول رولان بارط

نحن نتحرك في مرجعية دينية صرفة وقد زادها صوت المقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد اغراقا في الايحاء الذي أصبح صريحا ولم يكتف حسام الغريبي بكلّ هذا بل استحضر أجواء سقيفة بني ساعدة لخصها "السنوبري " عندما قال :

" ليلة الملقى في السقيفة الوالد يعاند في الموت ممدود واحنا نتعاندو شكون يكون الرايس "

هذا الخطاب يعرج بالمسرحية من واقعيتها وآنيتها ليؤصلها في تاريخ بعيد ويفتح لها آفاق الانعتاق من الراهن والمحلي لتتحدّث عن واقع عربي اسلامي مأزوم يشكو التشرذم والتمزّق والتفكك والتناحر ليقول ان أزمتنا ليست خارجة عن نطاقنا وانما فينا وداخلنا وأن الهلاك نحن من تسبب فيه وهنا نعيد النظر في بكائية "نوح " عندما اكتشف خيانة أخيه الأصغر فغدا يعدّد كما تعدّد الثكلى على فقيدها :

يا خسارتك

يا ولد أمي

ياللي بزرق حليبها

في فمك وفمي

آش عمتلك يا ولد أمي

حليت فيا جروح مصبوغة مدبوغة

في بلاد الضبوعة بالهلالو "

وهكذا يتواصل نواح نوح المغدور وهكذا هو حال أمة العرب والاسلام فما السفينة التي غرقت الا سفينة نوح التي حمل فيها من كل زوجين اثنين وضاع من أسلم وجهه لله بسبب حسابات تافهة وغيرة غير مشروعة وحقد لا مبرر لها وبحثا عن زعامة واهمة ..

يتبع 

تعليقات