ناقِد مَسْرَح ما شَافِشْ مَسَرَح

ناقِد مَسْرَح ما شَافِشْ مَسَرَح

بقلم : محمد مومن

                 في رائعة من روائع المسرح التونسي، " غَسَّالِةِ النْوَادِرْ "، تقول  " بَيَّة " ( جليلة بكّار ) ل " العَروسِي " ( فاضل الجزيري ) : " كِيفَاشْ، مَا فِي بَالِكْشِ؟ يَا خِي مَا قْرِيتِشْ الجَرِيدَة مْتَعْ اليُومْ؟ ". فيجيبها بضجر وسأم : " نِخْدِمْ فِيهَا وِتحِبْنِي نَقْرَاهَا ! لاَ عَادْ، يَاِسِرْ عَلْ بَرْلَمَانْ ! ". 
      هذا الكلام وما شابهه يمكن تنزيله بسهولة في ما نلاحظ من حياتنا المسرحية. في الديار التونسية الغريبة ليس عجيبا مثلا أن ترى الفنان المسرحي عندنا لا يعرف مّا يَجِدُّ في مجال الابداعات في عقر داره. هو عمّا يبدع رفاق دربه من فنّانين غافل. راغب عنهم وعمّا يصنعون. في غيبوبة وإغفاء دائم. وكما أنت لا تهتم بآخر انتاجي المسرحي، فما أنا بمعاملك كذلك إلاّ بنفس قلة الاهتمام وبعين عدم الاعتناء : العين بالعين. لا عينايَ رأتكَ ولا عيناك رأتني. إنه منتهى العدل. لماذا تريدني أن أعرف ما يبدع رفقاء دربي؟ لست في حاجة لمشاهدتهم وما يقدمونه لجماهيرهم. ولهذا، نادرا ما ترى الفنانين المسرحيين يتبادلون  " الزِّيَارَات " لمسارحهم. بل هم يتجاهلون بعضهم البعض. لا أحد يرى الآخر. وحال مسرحنا في هذا؟ حال مسرحنا... كما ترى وأرى، هو من حال مسرحنا : العالم بأسره في حسد لنا على حالنا.

قاعة الدّرس وقاعة العرض
      
         وهناك ما هو أغرب. هناك من الاساتذة والجامعيين الذين " يُلْقُونَ "  - والكلمة، إن شئنا، معروضة على التّحليل النّفسي، بل لنقل عُرضَةً له –  الدروس ويقومون بها - هذا إن قاموا بها ولم يبقوا عنها قاعدين. دروسهم في معاهد الفن المسرحي وهم لا " يَعُودُونَ " المسارح و لا يرتادون دور العروض. لا ينزلون من علياء معاهدهم العليا ك " المَعْهَدُ العَالِي للفَنِّ المَسْرَحِي " أو غيره من المدارس " الشاهقة " " الشامخة ". يحدث أحيانا أن تراهم " يَتَبَرّعُونَ " بشيء من وقتهم الثمين جدّا في كبريات المناسبات والرّسميات حينما تحين لحظات إفتاح المهرجانات أو السهرات الكبرى التي يشفق عِلْيَةُ القوم وكباره على هذا الفن المنكوب المسمّى مسرح. حينذاك تراهم. نعم تراهم رؤية العين. تكذّب أحيانا عينيك ولكنك تنتهي وتعترف أنهم هم، أمامك، لحما ودما. وعلى كل حال، مهما فعلت، وهل تخفى الأقمار، لن تنجو أبدا من رؤية وجوههم لأنهم يفعلون كل ما بوسعهم كي تراهم. لسان حالهم : " ها أنذا ! ها أنا، كما ترى. لا، لست وحدك من يرتاد المسارح. أنا أيضا- وربّي - أحضر الأعمال المسرحية وأتابعها ! ". في حصيلتهم الفرجوية كَمٌّ هائل من المشاهدات : بعض العروض؛ حينما تحصيها لا تتجاوز أصابع اليد. ويُدَرِّسون. هم لا طبعا لا يُدرّسون الفيزياء. ومن أين لهم ؟ فيا ليتهم ! كلا، هم يعتبرون أنفسهم من المكوّنين والمربّين في مجالات المسرح. يدرّسون الدروس، ويؤطرون الرسائل، ويشرفون على الأطروحات، ويقومون بالبحوث. فهم أكاديميون. حاملي كل الشهائد والديبلومات العليا التي تطلبها الناس في هذي والآخرة. نعم، نعم. ومنهم من يكتب، أجل، الكتب حول المسرح التونسي، وحتى العربي- أعجبك الأمر أو لم يعجبك، سوا سيا. أَوَ رَأَوْا المسرح العربي؟ كلاّ، لم يروه، وإن رأوه فقد رأوا ما أراهم منه " مهرجان أيام قرطاج المسرحية "، يعني رأوا منه النزر القليل، يعني شيئا تافها، لا يكاد يُذكر. وهل تعتقد حقا أنه من الضروري أن يتابع " فقهاء " المسرح هذا الفنّ الفرجويّ الحيّ بالمشاهدة الحيّة؟

أما زلت هنا ؟
      
         " كَيْف؟ "، قال لي : " كَيْفَ؟ أَمَا زِلْتَ هُنَا ! ". هذا ما قيل لي و قيل لي هكذا، بهذه الفجاجة. وقد قصد من قال هذا الذي قاله أنني ما زلت غبيّا أبله أؤمن بمسرح الفرجة الحيّة. ذلك أنّنا خرجنا، إن لم تعلموا، من زمن المسرح كفرجة حيّة. لأننا لعلمكم ههنا في زمن آخر، زمن الأَنْتَرْنَيتْ وشبكات التّواصل الإجتماعي. ربما كانت التّرجمة لازمة. ما قصده مخاطبي هو  ما لا يسمّيه هو وإنما  غِي دِي بُورْ" مُجْتَمَعِ الفُرْجَةِ "، هذاالمجتمع البورجوازي المتوحّش التّافه والقاتل لكل وجوه الجمال الأصيل والقيم النبيلة حيث تسلّعت فيه الإنسانيّة وتشيّأ الإنسان، لقد صارت فيه هذه المسألة إذن قضيّة " إَيمَانٍ " وَ " عَقَائِدَ " : تؤمن أو لا تؤمن. قال لي  صاحبي، وهو فنّان كبير كبر الشبكة العنكبوتية التي يعشقها ويجلّها إجلالا ما بعده إجلال : " أَفِقْ، اصْحَ ياَ صَاحِ، اسْتَفِقْ مِن سُبَاتِكَ العميق الشَّبِيهِ بِنَوْمِ أَهْلِ الكَهْفِ هذا ! مِنْ نَوْم الأَمْوَاتِ هَذَا، هَلاَّ أَفَقْتَ ؟ أَمَا عَلِمْتَ، شِئْتَ ذَلِكَ أمْ أَبَيْتَ، أنَّنَا فِي عَهْدِ الفُرْجَةِ المَسْرَحِيَّةِ الافْتِرَاضيَّةِ ؟ متى تفهم وتستوعب فكرة أنّنا صرنا، كَرِهْتَ ذلك أَمْ أَحْبَبْتَ، فِي زَمَنِ العَرْضِ المَسْرَحِيِّ عَبْرَ ' السْترِيمِينْغْ ' ؟ ".
         نعم هكذا، وليس غير هذا. وهكذا قيل لي. وفي الأثناء، بينما أمواج الحياة تتلاطم في بالي، هم، " أَسَاتِذَتُنَا الأَجِلَّاّءُ "، كما يصفونهم في منتدياتهم وندواتهم وجلساتهم ومجالسهم، في ملتقياتهم ومؤتمراتهم، هم يكتبون. يكتبون الكتب. بالعناوين الكبرى. يكتبون ما لا يشاهدون. أو يكتبون ما يرونه عبر " الْسْترِيمِينْغْ " ظانّين أنهم ما زالوا في بلاد المسرح وميادينه. ولا يَشُكُّون لحظة يتيمة أنّهم ربّما كانوا من " مُنْتَحِلِي صِفَة " أساتذة أو كُتّاب مسرح. ولماذا نظلمهم ؟ أليسوا " دَكَاِترَة "، أناس اجتهدت وأجهدت أنفسها السنوات الطوال في البحث والتّنقيب، في" الكُتُبِ الصَّفْرَاءَ " للمسرح، في غبار الدّوريات و" الصُّحُفِ الأُولَى "، صحف مسارح بدايات هذا الفن وظهوره في هذه الديار؟
    
انتحال صفة ناقد
      
        وهناك أغرب من الأغرب. هناك ممّن يُصَنَّفونهم، أو ممّن يُصَنِّفون أنفسهم في مَنازِل النقّاد ومُقامات المنظّرين للمسرح وهم الذين لا يحبّون المسرح ولا يشتهون أبدا مشاهدته. أبدا ؟ لنكن رُحَماء ولنقل إنهم لا يتفرّجون على المسرحيات إلا ما رحم ربّي منها : لا يتفرّجون في المسرح سوى عَرَضاً. مشاهدة العُروضِ عرَضًا ! أو بعد هذا كلام ؟ نحن نراهم في صالات العرض كما يرى الصحراوي السماء تمطر في الصيف. قاعات العروض أماكن لا يرتاحون فيها. ربّما شقّ عليهم التنفّس فيها. ولماذا تريد أن يجري شأنهم مجرى مغايرا ؟ أم حَسَبْتُم أنهم أناس " يَتَنَفَّسُونَ المَسْرَحَ " ؟ ودَعْنِي مِمَّا يَدَّعُونَ ! الادعاء .. هو ادعاء. والحُجّة على من ادّعى. والحجّة، هنا، هي كتاباتهم. أليس برهانهم وبرهاننا  أثارهم : وتلكم آثارهم تدلّ عليهم. هنا، في هذا المقام، في هذه الأحوال التي هي حالات، وأقول حالات استشفائية، يصحّ وصفهم ب " مُنْتَحِلِي صِفَةٍ "، صِفَةِ مُشَبَّهَة، مُشْتَبَهٌ فيها : صفةُ " النُقَّادِ ". أن يكون النّاقد لا فاعلا ( وأتكلّم من وجهة نَحْوِيَّة )، لنقل مشاهِدا مثلا، وإنما صِفَة، وصِفَة مُشَبَّهة مَشْبُوهَة ومُشْتَبَه فيها، لنقل لقبا جامعيّا عبر الأكاديميات مثلا، أليس ذالك قمّة المهازل المُبْكِيَّة؟ أَلاَ إنّها صفة " كلبة ". أقولها مع منتهى احترامي للكلاب، فحاشهم الكلاب ! وأنا لا أقول كما نرى "حَاشَاهَا " الكلاب، وهو ما أرادوه نُحَاتُنا القدامى وكما وَرَدُ عندهم من أن الكلب جنس حيواني غير عاقل، والحال عندي أنه أعقل من أولائك الذين يدّعون أنهم عقلاء وعاقلين. لا، نحن إن نحن عَنَيْنا شيئا ههنا، فإنّما عنينا الكلاب الذين يتنكّرون لجنسهم الكَلْبِيِّ ويستوون بشرا سويّا. وبالتالي فإنّني، ومن الضفّة الأخرى، من جانب الحيوانيّة وليس من جهة الإنسانيّة التي فينا، لا أقصد إلا أولئكم البشر الذين أنكروا جنسهم فلم يَسْتَوُوا بشرا كما كان عليهم أن يكونوا واستحالوا إلى كلاب وما كان عليهم أن يستحيلوا. ولنقرأ في هذا الصدد، وفي هذا المعنى، ما كتبه صديقنا الكاتب كمال الهلالي في أقصوصته الأعجوبة " كَلْبٌ عَجُوزٌ إِلَى دَرَجَةٍ لاَ تُصَدَّق ". هي قصّة قصيرة نجدها في مجموعته القصصيّة الصادرة في المدّة الأخيرة ( ٢٠٢٠ ) والحاملة لعنوان : " أَحَدٌ مَا يَمُوتُ فِي الجَنُوبِ ". هنا، في هذه الأقصوصة، البطل كلب عجوز ،عمّر طويلا، بشكل لا يكاد يُصدّق، كسب ذكاء فائقا وقامت ساعته فإذا هو يحتضر فحلم. في حلمه، نراه يرفض التَّحَوُّل إلى كائن بشري. في حلمه، كان كابوسه أن يتحوّل من حيوان كلبي إلى إنسان. ولحسن حظه لم يقع ما يخشاه. وها هو قد استفاق من حلمه الذي لم يتحوّل إلى كابوس، فحمد السّماء على هذه النّعمة الكبرى وشكرها شكرا جزيلا. لقد حالت السماء دون تحوّل هذا الكلب إلى إنسان. فإذا كان الكلب يحمد السّماء لأنه نجا من التحوّل إلى بني آدم، فما عسانا نحن الآدميين  فاعلين ؟ هل بوسعنا فعل شيء ما سوى أن نتوجّه إلى السّماء فنستعيذ بالربّ عسى أن لا يجعلنا ننتحل صفة ناقد مسرحي ما شاف ولا حاجة من المسرح تكون حيّة، حيّة كالحياة، ناقد لا يحبّ هذا الفن ولا يؤمن به، وإن آمن به فليس كَفَنٍّ وإنما كَكَفَنٍ، لا يشاهده ولا يراه، لأنه يراه فَكَفَنٍّ ميّت. ربِّ، أعذني من منتحلي الصّفات، واجعلني محبّا للمسرح الحيّ !   
.

تعليقات