محمد اليانقي يكتب عن ‏الخزف

بقلم: محمد اليانقي


الخزف _ فن النار بإمتياز _ هو فن عريق عراقة الإنسان نفسه ، واكتشافه للنار هو الاكتشاف الذي خول للخزف أن يصبح خزفا .

لقد مارس الإنسان هذا الفن منذ العصور البدائية ، وما انفك يطور في تقنياته وينوع في صياغته وفي وظائفه على مر العصور.

                  عرف الخزف في تونس منذ عصور عديدة كفن تزويقي وزخرفي سواء في صنع الأواني النفعية والأشكال الوظيفية أو في الزخرفة الحائطية المتعددة الأساليب والتقنيات.

كان هذا الزخرف الحائطي _ ومازال_ حبيس الجدران كما يدل عليه اسمه ، لا يغادرها ولا يتحرر منها مطلقا منذ أن ثبت عليها.

منذ سنين قليلة ،تحرر هذا النوع من الخزف من الجدار الذي كان سجينا له وأصبح لوحا حرا انعتق من سجنه وأصبح لوحا حرا أنعتق من سجنه وأصبح قابلا لأن يعلّق في أي مكان يريده صاحبه ويقرّره له كغيره من اللوحات الزيتية أو المائية أو غيرها .

 

كان ذلك -  في حقيقة الأمر - على أيدي بعض الفنّانين التشكيليين المحدثين الذين قاموا بهذه المغامرة منذ أواسط القرن الماضي ...

ومن بين هؤلاء المهتمين بهذا النوع من الخزف - حسب شهادة المؤرخين والباحثين - كان من بينهم ثلاثة طلبة درسوا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس ثم بالخارج . كرّس ثلاثتهم هذه الظاهرة وتبنّوا هذا الاختيار لتصبح أعمالهم ألواحا "حرّة " على غرار غيرها من لوحات الرسم تنتقل بحريّة وتعلّق أينما أريد لها أن تكون هذا مع توخّي أساليب فنيّة مميّزة وتقنيات متطورة .

أسعدني الحظ أن كنت أحد عناصر هذا الثالوث ( رضا بن عرب والهاشمي الجمل ومحمد اليانقي) .

تواصلت تجربتي وممارستي  لهذا الفنّ على امتداد عقود عديدة أثريت خلالها تجربتي بفضل البحوث العلمية الكميائية والتي دعّمتها بالتجارب الابداعية التشكيلية حيث كرّست عملي طيلة هذه المدّة في انتاج ألواح خزفية جسّمت فيها تقنيات خزف الحرارة المرتفعة (1230درجة /1280درجة مائوية ) وذلك انطلاقا من معادلات كيميائية أحوّلها الى وصفات وزنية والجدير بالذكر أن هذه التقنية تضفي على العمل الخزفي خصائص فيزيائية وكيميائية من جهة ’ ومواصفات بصرية وملمسية من جهة أخرى ’ مواصفات لا يمكن تحقيقها الا بهذا النوع من التناول الخزفي ’ الى جانب أني اخترت أن أجسّم أعمالي الابداعية في شكل ألواح خزفية مسطّحة ’ فان أسلوبي الفنّي الفني بدأ في تماثل وتراسل مع ما أنتجه عادة من أعمال أكريليكية ( أو غيرها من تقنيات  " التدهين " - ظاهرة أبرزت مدى التماهي والتماثل بين اللوح واللوحة - ظاهرة فضّلت أن أسمّيها "تفانن" على غرار "تثاقف " (الحاصل بين الثقافات المختلفة )

هكذا آليت على نفسي أن أثمّن هذه الظاهرة وأكرّس مزيدا من التراشح والتضايف بين وسيلتي التعبير هاتين خاصّة وأن الظاهرة كانت متواجدة بشكل تلقائي وغير مقصود في سابق أعمالي ’ هذا وقد لاحظ ذلك الكثير ممّن اطلعوا على أعمالي السابقة ’ سواء كان ذلك خزفا أو رسما - وواكبوا مسيرتي الفنية من قريب أو من بعيد .

والحالة تلك ’ أردت هذه المرّة أن أبرز هذه الظاهرة بشكل أكثر جلاء وأكثر وضوحا من جهة وبنيّة قصدية وقرار واع من جهة أخرى -أنّ هذا يتطلّب -ولا شك - تمكّنا كبيرا من كلتا التقنيتين على حدّ السواء وذلك حتى يحصل التماهي والايهام بتداخل التدخّل .

بيد أن هذه العمليّة لا ينبغي أن تكون مجرّد نقل واستنساخ من هذا لذاك ’ ولا مجرّد تقليد سطحي ومحاكاة مفضوحة بل سأسعى أن يكون ذلك من قبيل الاستعارة الفنية و"المعارضة " الشكلية كالمعارضة الشعرية على سبيل المثال.

هكذا ستبدو الألواح الخزفية وكأنها لوحات أكريليكية رغم أنها قدّت فوق حوامل من طين مفخور وبطلاءات خزفية حقيقية . وفي المقابل ستبدو اللوحات الأكريليكية وكأنها بدورها ألواح خزفية انجزت بتقنيات الخزف المعروفة رغم أنها أنجزت فوق حوامل من الورق أو القماش أوغيرها من الحوامل الرديفة .

هههكذذذا تتداخل القراءات ممّا يشكل على مشاهد التمييز بين هذا وذاك لما في الأعمال -خزفا ورسما - من عنصر التمويه والايهام المقصود .

أخيرا تجدر الاضافة الى جانب كل ما ذكر أن هذه العملية ستساعد حتما على تفجير الطاقات الكامنة داخل هذه التقنيات وإبراز الثراء المخزون داخلها وذلك بحسن اختيار الخامات والمواد المناسبة من جهة ويحسن تفعيلها والتعامل معها يحذق وتمكّن من جهة أخرى .   


تعليقات