لَحْظَةُ عُمُر

لَحْظَةُ عُمُر

       بَحَّارَه
" النُّطْفَه إِليِّ خَلْقِتْنِي كَانِتْ حَبِّةْ مِلْح
   وِالمُوجَه قْمَاطْ وِفْطَامْ
   بَحَّارْ وَعْلَى ذْرَاعِي
   مِخْطَافْ وِمِجْدافْ وْشَامْ "
                                          ( من قصيدة لحسن المؤذن )
  
                                 
                                                   
           لا أعرف بالضبط لماذا أعتبرها لحظة عمر. من أحلى أحلى تلك اللحظات التي جاد بها علينا ثالث مهرجان المهدية " مسارات المسرح التونسي " بنسماته البحرية المبهجة للنفوس والمطهّرة للعقول والقلوب التي جاءت بعد الموجة العنيفة للجائحة والتي حبست فرجة المسرح الحي وخنقته. نعم، لحظة عمر هي الندوة التي التأمت لتكريم الفنان 
المسرحي حسن المؤذّن، ابن الجهة.

 ويُقال ابن الجهة، ولكنه ابن تونس. نعم، قبل أن يكون ابن الجهة وأصيلها، هو، نعم، ابن الوطن. أنا لا أحب الجهات ولا الجهويات، ولا ولا يشفع في هذا الشأن الموطن ولا مسقط الرّأس. لا أحب الأوطان وفكرياتها وميثولوجياتها لأنها تندرج في آفاق ضيّقة محدودة. أحب العالم، الدنيا وما فيها. أعشق كل شبر في الأرض وكل متر في الدنيا؛ أحب، أجل أحب كل حيّز تحت سمائها، كل متر من بقاعها، كل ما كان على برّها وفي أعماق بحرها. ودعني بالله من حب الأوطان ! لا أحبها الأوطان، لا، وبخاصة كما نحبها نحن في بلادنا، أي بشيء من بقايا القبائلية والعشائريّة القادمة من غياهب العصور السالفة والعهود البائدة. إنه حب مقيت. كم وددت اقناع نفسي أن تكريم حسن المؤذن لم يكن نابعا من انتمائه الجغرافي لهذه البقاع السّاحليّة الجميلة والعزيزة على كل " التوانسة " !  لماذا؟ لأن هذا الفنان يستحق تكريما أكبر من أي اعتراف جهويّ مهما علا شأنه. أحلم أن يكون اعترافَ وطنٍ كامل بكل عطاءات هذا المبدع لإنسانِ بلدِه، يعني في الحقيقة لإنسانِ العالمِ بأسره. 

     لحظة الندوة التكريمية لحسن المؤذن كانت مناسبة فذّة مليئة بالتأثّر لكافّة الحضور. وهذه المناسبة الحلوة خلقتها دورة فريدة عزّ جمالها لأنها جاءت بعد قلة تنفس للمسرح جرّاء الجائحة. هي لحظة هبّت فيها نسمات بحرية، فاستنشقنا فيها هواء يرشح بشيء من الجمال الغالي والفكر العالي في بلدة، مهما قالت وفعلت لا تقص على الناس سوى حكايا البحّارة والبِحار. هي إذن لحظة حَسَنْ في يوم المُؤَذَّنْ. وهي ليست ككل اللحظات بما أنها كانت ترشح بانسانيات حيوانيّة، أي بأوقات كلها حياة. والشّكر كلّه لمن هندس هذا التكريم وعلى رأسهم الفنان  الذي يتّقد حبّا للفن المسرحي بكل شبابه وصدقه حسام الغريبي والكاتب والصحفي الثقافي نور الدين بالطيب، والمندوب الثقافي بالمهدية صديق الفنانين السيد عبد الحفيظ بن حسن. 
    
       وبتكريم صديقنا حسن المؤذن عشنا، عشتُ شخصيّا لحظات حلمت بها طويلا، منذ سنوات وسنوات. وأشكر الله أن أطال أنفاسي كي أعيشها. ولماذا هذه البهجة المفرطة؟ لأنها اعتراف من المهنة ورجالها بتضحيات ونضالات أحد من أفْنَوْا حياتهم من أجل هذي البلاد وعبادها حتى تصير الحياة فيها أثرا فنيّا وعملا إبداعيا. وقد تصادقنا، أنا وحسن، مذ عمري الأول إلى يوم الناس هذا. لقد نذر المؤذن عمره للفن والمسرح ووهبها لناس هذي البلاد فبقي مغمورا، وبالحياة مقبورا. لا أذكر أنه تحدّث يوما عن " الوطنية ". ربما لأن الأوطان ليست كلاما ولا حكاية خطابات رنّانة جوفاء. هي تجارب عميقة في الوجود، من أجل أن توجد الشعوب الحرّة. ومن لا يتكلّم كحسن المؤذّن يفعل؛ وهو لا يفعل في الحقيقة غير إحراق أيامه من أجل عيون الإنسانية الحرّة والسعيدة. وأن يشقى الفنان ليسعد الناس وأن يموت هو ليحيا الآخرون، أليس هذا هو قدر الفنان الأصيل حامل الرسالات كالأنبياء؟ وما أدرانا ربما كان حسن حاملا لرسالة من جميل وجليل هذه الرسالات؟ حقّا الحياة مكتوبة بدماء الشعراء الحالمين بالحياة التي تفيض على الدنيا. ولعلّ حسن المؤذن، صاحب الإبداعات المسرحية الكبيرة، من هذه الفئة الفذّة التي لا نعثر عنها بسهولة في كل مكان وأوان.

                                                                                             محمد مومن
 

تعليقات