في ما بعد السّياسة والسّياسيين

في ما بعد السّياسة والسّياسيين 


   
            نحن في " مَا بَعْدَ الأَحْزَابَ ". الرئيس قيس سعيّد يقودنا نحو هذه المناطق، صوب هذا المنطق.  نحن في  " مَا بَعْدَ السِّيَاسَة ِ".  انتهت السياسة. أينها؟ لم نعد نجد في بلاد العالم إلا ظلالها وأطلالها. والرئيس سعيّد موجود هنا، في هذا الزمن اللاّسياسي، في هذا التاريخ المتقدّم، " التقدّمي، نعم. إنه تاريخ لم يعد يؤمن بالأنساق والأنظمة الإيديولوجية، بما هي كمشة أفكار نسعى بكل الوسائل والطرق، حتى بالقهر والقوة والعسف، إلى تطبيقها مهما كان الثمن. هذا أصبح غير ممكن. السياسات تاريخيا وحضاريا ولّت وانتهت. وما بقي من الفكر السياسي هو من البقايا، وما تبقّى من العمل السياسي هو من النفايات. وسعيّد فيما " مَا بَعْدَ الحِزْبِيَّةِ " والحزبيات.  كيف لوقت مثل وقتنا أن يؤمن بالحزبيات وقد مررنا فيه، حسب شرعية تاريخية عميقة، من المحلّي إلى الجهوي، فالإقليمي ثم الوطني، والوطني بلا عقلية المَرْكزيّ والمركزيّةِ ولا حتى بذهنيّة " الاّ مركزيّةِ " : ألا ترى إلى أن جغرافية المركز والهامش لا يعرفها ولا يعترف بها ما هو في منطق جغرافية الوطني الأصيل ؟ إن أفصحنا، يكون قيس سعيّد في فكريات أقرب ما تكون ممّا صرنا ننعته بما هو " بَعْدَ مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ ". علينا أن لا نستغرب إن رأينا منطقه يتجوّل في مناطق " مَا بَعْدَ الدِّيمُوقْرَاطِيَّةِ ". لا نيابيّة ولا " تمثيليّة ". ربما قبَل قيس سعيّد، باحتراز شديد وحذر كبير، ب " الدِّيمُوقْرَاطِيَّةِ المُبَاشِرَةِ "، تلك التي تنكر " الديمقراطيّةِ التمثيليّة " وتتنكّر لها، لأن التمثيليّة تمثّل مَن؟ في الواقع، لا تمثّلك ولا تمثّلني، ولا تمثّل في الحقيقة أحدا. فما هي في الأخير إلا " تمثيلة " بالمفهوم الشعبي والتحقيري للعبارة.
كرامة " الشّعب الكريم " 
        وبإيجاز يبدو قيس سعيّد في " مَا بعْدَ " كل ما ورثناه من سياسات وفكريات كانت تشكّل مجالات ما يسمّونه ب " الشَّأْنُ العَامُّ "؛ وهو مصطلح هُلاَمِيٌّ، بل هَيُّولِيٌّ، لا يعني في الحقيقة ما يهمّ جميع النّاس مباشرة. فعادة ما يكون شأنا لا يهمّ إلا الخاصّة، تلك الطبقة المالكة للمال والحاكمة بأمرها، النافذة بسلطان لم ينزله الرب. لا، ليس للشّعب صلة وثيقة بهذا الذي يصفونه بالشأن العمومي. كذبوا، موّهوا. وما المقصود هنا ب " الشَّعْبِ "؟  هو  الشّعب الذي نفهمه جميعا. وهو الذي يعنيه التونسيّ حينما يتكلم عن " الشَعْبِ الكَرِيمِ " يريد به تلك الفئات بكل تلويناتها وتكويناتها المُرفولوجّية المتنوّعة، بكل اختلافاتها الثّقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى بكل تناقضاتها المصلحيّة. الواضح هو أن ما يفهمه جميعنا، وليس العلماء منا، من مفهوم " الشَّعْبُ " هو الناس كلهم، بكل أصنافهم وفئاتهم : هم السّواد الأعظم، والدّهماء، مجمل المواطنين الذين تفرّ منهم النخب وتنساهم. هو ليس تلك الطبقات النّاجية من الفقر والظلم والجهل. ليس أولائك الذين يمثّلون حفنة من التونسيين استفردوا بالثراء والعدالة، وهي ليست العدل !، واستأثروا بالعلم الذي يستعملونه بلا حياء كسلطة تحت مسمّى " السُلطة المعرفيّةَ " ( هكذا ! ) وتعني عندهم المعرفة كسلطة، كنفوذ وقوّة، يتسلّطون بها على من فاته العلم وحُرم منه. نعم، لقد أخرج قيس سعيّد الأحزاب وإيديولوجياتها وفلسفاتها، وأخلاقياتها وممارساتها وبرامجها وكل أنماط حيواتها  السّياسية التي سادت في ديارنا منذ الاستقلال إلى الآن، أخرجها من التاريخ. وها نحن، أحببنا أم كرهنا، في ما بعد " تاريخهم ". لقد أعاد فجأة ما للشّعب للشّعب. وما كان هذا الحراك حدثا مفاجئا إلا لمحترفي السياسة الذين بادوا. أما للشعب الكريم، فهو حدث كان لا بد منه. انتظره فجاء. وكان عجبا، نتاج وثمرة حياة لا سياسية ولا سياسوية. فاستغربوه واستهجنوه. وحسنا فعلوا. بتهجينهم لسعيد هجنوا الشعب فخرجوا منه نهائيا ومن مناطقه ( بالمعنيين، الجغرافي والمعرفي). فهل يهمّ، بعد هذا، إن نجح أو فشل حراكه؟ من لا يعلم أن النجاح ظرفي، والفشل يزول، يمضي ثم يعود. مآل هذا الحراك غير مهم. الأهم أنه حرّك السواكن واقترح خيالا سياسيا آخر بلا سياسات ولا سياسويّات. الأهمّ  أنه أعاد، ولو للحظة، ولو لومضة، ولو في طرفة عين ولمعة، ردّ ما للشّعب للشّعب. ردّ الدّمعة. النجاح هو من تلك الحكايا التي ربما تهمّك وربما لا تهمّك - سيّان. هي من التاريخ كتأريخ، يعني كَسَرْدٍ وقَصٍّ، كشيء ما من الذاريات والعابرات، من الأزمان التي مهما طالت واستطالت تقصر. وأمّا التاريخ كحياة، أمّا التاريخ كحياة ... أما التاريخ كحياة، فشيء آخر. هذا الشيء الآخر فهمه قيس سعيّد. فتاريخ الشعوب هو ما يبقى حيّا عبر الزّمن من حياتها. لا قيمة لمآل قصة سعيّد مع هذا الشعب. أعطاه فرصة حرية، فرصة جميلة وبهيّة ليكون شعبا حُرّا، بل حريّة تامّة. يريد منه أن يريد، ودائما. لأن ذلك حقّه. لقد ولما أعاد له حقه، عادت له إرادته. من حقه أن يريد. وما شعبٌ لا يريد؟ لقد قضى له سعيد بهذا الحق فغلَّبَه على الأحزاب، رفعه على الدساتير والمنظمات، على الجمعيات والجماعات والتجمّعات؛ سما به على جميع أشكال التّكتّلات. طار به عاليا فوق كل " النُّصُوصِ واللُّصُوصِ " كما يقول. فَهَلاّ فهمنا؟ ومن لم يفهم، سَيَفْهَم يوما، طال الزمان أو قصر. لِنَقُلْ، على الأقل، أنّ قيس سعيّد أعاد  للشّعب بَلدَه المسروق، المباع والمباح. فمتى رأينا الشعب في ديارنا خارجا إلى الشوارع يساند صادقا رئيسا صادقا؟ الشعب فهم أن هذا الرئيس - الإنسان والمسؤول - قد فهمه من كل قلبه. بكل وجدانه، بكل جوانحه وجوارحه. وهو ليس بالشيء الهيّن. أعاد للشعب بلده حبّا ومبدأً، لا سياسةً، ولا سياسويّا. وأصل حيرة السّياسين من أقصى اليمين ( بِغَنُّوشِهِ ) إلى أقصى اليسار ( بِهَمَّامِيهِ ) هو إعادة الإرادة لهذا الشّعب الكريم. وفي هذه الاعادة بهجة، بهجة الحياة التي تسخر من كل الزّوابع والتّوابع، والبلايا والرزايا. وصفوا عودة الشعب للشعب بالشّعبوية.  قالوا عن حراكه إنه انقلاب. قالوا كل هذا فوضى، وخروج عن الطاعة، طاعة نواميسهم وقواميسهم، كل سياساتهم. وهو فعلا خارج عن القانون، لكن قانون من؟ قوانينهم.  وما قوانينهم إلا مناجد أعرافهم ودفاتر دساتيرهم. حراك سعيّد في منطق قانوني آخر وأعراف أخرى. تاهوا. ضاعوا في صحراء لا قِبَلَ لهم بها. من الواضح أنهم وُجدوا بغتة قدّام فكر متيقّظ آخر. مهما أنكروا فإنه سبق أزمانهم السياسية البائسة بسلوكه السياسي اللاّسياسي واللاّسياسوي. سلوكه، كحراك، لا منتمي،  غير مُصَنَّف، وليس مسبوقا. 
 بالقلب
      قيس سعيّد لم يأتِ أزْمانَنَا بالعقلِ فحسب. فبسبب من هذا سارعوا فاتهموا حراكه بأنه غير عقلاني وغير معقول، وبالتّالي غير مقبول. أليس هم من آمنوا أن السياسة فكرا وممارسة ليست أخلاقا، يعني فاقدة للقيم والمبادئ والمُثُل؟ وإن قالو بالأخلاق بهتانا، فمتى، متى طبقوها؟ أحبوا أو كرهوا هو حراك عقلاني، ولكن شتّان بين عقلانيته وعقلانيتهم البائدة التي تحتقر حكمة الشعب وتستصغرها. عقلانيته لا تستصغرها وإنما تصخي السّمع إليها. عقلانيته شربت من تلك الحكمة. اسْتَمَعتْ فاستجابَتْ فأعادت سيادة الشعب على بلده لتسعيد الكرامة وتسترجعها. ليس العقل أساسَ سُلوكِ سعيّد السّياسي، لأنّ ما أتى به حراك زلزلهم. جاء بما لا يفهمون : أتى ب " القَلْب ". لقد أدْخَلَ سعيّد القَلْبَ في السياسة، فأمات سياساتهم. مع القلب، وهو أرحب وأرحب من العقل، صار لا معنى لسياسات محترفي السياسة. انصت إلى رجل الشارع البسيط ثم اسمع إلى رجل السياسة الكلاسيكي، قارن وقل لنا من منهما أقرب للحكمة والتعقل والحياة والإنسان والطبيعة ! مَنْ منهما أقرب إلى تونس؟ تونس سعيّد هي تونسنا. وهي كما هي، يحبها شعبها هكذا بدون مزايدات على الوطنية، بلا وطنيتهم. ألا إن وطنيتهم زيف، ألا إنها سفاهة ! الوطن، وبما هو قلب، ليس سوى ما نبض من أجله قلوب الأجداد حتى الموت والفداء عسى يكون لأبنائهم مستقبلا. فكان مستقبلهم هذا الحاضر البائس اليائس لأبناء اليوم. فكيف نسيان الأجداد وخيانة الأولاد، أجيال اليوم. فكيف النسيان؟ وها أن سعيّد لا يريد أن ينسى ما لا يجب أن ينسى. بقلبه أنصت إلى شعبه فاتّبَعهُ وأنصتَ شَعبُه بقلبه إليه فاتّبَعهُ. لهذا الرجل شعب، ولهذا الشعب رجل. ألا يُصوِّر هذا مصيرا ويُسَطِّر قدرا؟ لكأنّنا بجدليّة هي زواج. وعرس. وأن يكون القلب محرّكا لتاريخ الشعوب وليس الانقلاب، ألا يرتقي هذا إلى ما يشبه يتيمةٍ من يتيماتِ الدّهر؟   
                                                                   محمد مومن


تعليقات