سياحة الرؤى في عوالم التعدّد

 

سياحة الرؤى في عوالم التعدّد

على ضفاف الدورة 27 لصالون صفاقس السنوي

بقلم : لبنى الخراط 

"جلّنار" مجموعة شعرية جاد بها المبدع عبد الجبار العشّ ليسحبها على ذات القصيدة التي وسمت الدورة 27 للصالون السنوي للفنون ‏التشكيلية فكيف يمكن لناأن نكتب دون العودة إليها للاغتناء بتلويناتها والعزف على إيقاعات نبضاتها.. ألا يا جلّنار القصيدة قد سبحنا في أبياتك وكلماتك أيّما سباحة.. علّنا ‏نجد لك أثرا يتسرب بين جنبات القماشة.. أو في أنسجة المواد.. سرنا نتقفى سحر اللمسات.. وصرخة اللطخات.. ‏وانفلات الخربشات.. ووقع الضربات.. ودقة الاقتناص.. ورقة الخطوط.. ورهافة الورقات.. ‏وعمق الانشغالاتبفعل الفن في أحلك‏ اللحظات..

لابدّ أن ننزع عنّا حين دخولنا قاعة العرض كل أفكارنا المسبقة.. علّنانؤسس أفكارا جديدة.. نحاول أن ننسى كل ما نعرفه عن الأشخاص ونخوض ‏تجربة شخوصها الأعمال ومدادها الأصباغ والألوان وقوامها ‏حبكة نسيج المواد وانتظام الاشكال.. ندخل بشوق العاشق الولهان وشغف المحب ‏الهارب من الاحزان.. علّنانغسّل ما يعلق في العين من أدران.. ونروّح عن الصدر من ضجيج المبانيوسأم الأيام وصخب الطرقات والجدران..

‏كم نحتاج إلى فضاء أليف.. إلى إطار متناغم.. تغيب فيه المتناقضات.. ‏فلا تزعجنا الشوائب.. حيث يجد التشكيل مستقرا لا يكتفي بموعد ‏سنوي.. وحيث لا يكون العرض والتعليق حدثا عرضياتنتصب له الواجهات النمطية وترتكز له ‏الأضواء الكاشفة.. إلى حد انكسار الرؤيا واستسلام المحب إلى قساوة العشق وثقل الانتظار.. ‏كم علينا أن ننتظر حتى نحوز هذا الفضاء.. كم علينا أن نسكب من مداد ونصدح عالياأنّ التشكيل أساس الثقافة البصرية والروحية.. فلا تلومنّ السائق على التجاوز.. والموظف على العبوس في وجهك حين تسأله بضع ورقات.. فكلّ ‏يعيش في ضغط الأزمنة والأمكنة.. يحاول الفرار فلا يجد منفذا ولا متنفّسا ولا ملاذا..

‏هل على التشكيل أن يبقى حكرا على أصحابه؟ هل عليه أن يتسوّل من يشاهده ‏ويقتنيه أم علينا أن نقنع ببعض أعمال تقتنيها لجنة الشراءات؟ أم ربما ننصاع ونكتفي بما يطلبه بعض من يرغب في تزويق بيته على المقاس.. في انتظار أن نتمكّن من ‏إقناعهم بأن الفن قائد.. ولكن لا يمكن أن يقودهم إلى الجنة بالسلاسل!

‏المال قوام الأعمال والتشكيل مجال استثمار واعد فهل من مجيب! ما الفائدة من تدريس الفنون وقد انسدّت الأفاق.. ‏وبات العديدون يراكمون اعمالهم فيفضاءات ‏تنافسهم معيشهم، حيث بالكاد يجد الفنان أحيانا مجالا للممارسة.. يصارع أفكاره ومواده ويتحايل لإيجاد ‏منافذ تقنع نفسه وتُسكن حيرته...

‏في ظل كل هذه الملابسات هل بوسعنا أن نثبط العزائم حين يهزمنا الخيال أو حين تخيّبنا التقنية.. لا نملك إلا أن نمرّ إلى ما يمكن أن يستوقفنا.. فالعديدون يشقّون طريق الإبداع في صمت وثبات ومثابرة.. أولئك هم أول من نعوّل عليهم في تشكيل الثقافة البصرية في أوجهها المختلفة ونطمح معهم إلى مصالحة ‏حقيقية مع الجمال أيّا كان مصدره، باعتباره أرقى دواء لاعتلال الروح وأصدق بلسم لمعاصرة ‏مغتربة..

‏لم يطل بحثنا عما يمكن أن يحضّنا على التأمّل.. يلفح بصائرنا ‏بلهيب الفن.. يترك فينا أثرا دون أن يشعر ولا نشعر.. فقط نتسمّر ‏أمام بعض الأعمال نغترف ما أمكن من جمالونستكشف ما تبثّه من رؤى..

ولا مجال من تجاوز ‏لوحة نجوى عبد المقصود ¨visionspéciale¨ دون أن نتوقف عند طرافة المبحث وتجدُّدِه المطّرد فهي ‏دائمة العودة إلى معمار مدينة صاخبة بشخوصها الهائمين المنشغلين.. ربّما هي حالة ‏الغليان في مدينتها الأم التي ما فتئت تكشف عنها فتمرّر رؤيتها الخاصة.. مفعمة بنفسٍ متفائلٍ ينبعث من حركية التعبيرات الخطية ‏في تفاعلها مع المساحات اللونية المتباينة والمتناهية في الصغر، بتقسيم معماري محكم علّها تبثّه في نفوس ‏من أرهقهم صخب الحياة..

‏تتسرّب جلّنار بين جنبات بعض اللوحات تجذبنا الألوان إلى لوحة بعنوان ¨¨Incursion بإمضاء وئام بن معلم لكنه توغل لطيف بخفة انبثاق ألوانها.. حيث لا تكاد نبصر عبور الأنامل تمرّ برشاقة تغزو البصائر وتأخذنا إلى عالم مشتعل يطفئ ظمأنا إلى الألوان وتغرقنا في طبقاتها الغائمة دونما ‏توقف، إلى حين نفاجأ بحدود النافذة. ونجد صدى لهذه ‏الطبقات في لوحة لعايدة الكشوبعنوان ¨Air de Sérénité¨فيطفئ الازرق ما اشتعل فينا تأخذنا إلى عالم حالم لا تجد فيه العين مستقرّا بل تتلقّفك أمواجه على خطى اليد حين تكشط ما راكمته من طبقات لونية وماعزّزته من خلطات خبرتها واختبرتها على امتداد سنوات في عشق لا محدود لسحر المادة، تبثّه في أعيننا فلا ‏نملك إلا انصياعا علّها تجمّل عوالم المدينة وننقذها من معاناة القبح الذي لوث البصائر.

وفي نفس التمشي الحافل بالألوان تنقسم اللوحة الإطار لدى خليفة البرادعي الموسومة بـ¨Biosynthèse¨ والذي عوّدنا على بحوثه في المزج المباشر، فيغيب أثر الأداة وتغيب معها اللمسة المباشرة لتترك المجال لتموّجات لونية وتداخلات يقودها الفنان في خفاء، يبحر فيها عادة مع لوحات ممتدّة نسبيا، اختار هذه المرة أن يجزّئها إلى نوافذ صغيرة متعدّدة مربعة الشكل، عسى أن تمكّنه من تعامل مختلف،فينجح في إعادة تركيبهاوتحقيق توازن بصري ألّف بين حضور لوني كثيف، كاد أن يسقطه فينمط تنويع العيّنات.

تغالطنا لبنى عبد المولاه من خلال عمل بعنوان Altértioncaméléonienne¨¨حيث نكادلا ندرك ‏أثر الحفر من شدّة تداخل الأشكال وتراكب الطبقات تتناظر وتتجاور، فتحدث ذبذبة لا تسمح للعين بالسكون إلاّ ‏قليلا، في مجالات صغيرة سوداء تمعن في إبراز تقلبات الخطوط والألوان، ‏بين جنبات المثلث يقطع استمراريتها وينتقل بنا من أسطح المحفورة المتجزأة إلى عمق ‏حقيقي يختبر هندسة اللون جيئة وذهابا. فتحت عبد المولاه ‏المجال للعديد من التجارب لكي تحذو حذوها وتلتقف مسارا تقنيا ‏مشابها يسعى إلى الاختلاف والتميز، حيث تتوسل خلود الزريبي آليات التركيب المتجاور ‏لكنها تترك للعين مجالا لتنفذ وتنفلت بيسر وسهولة، وتبثّ فينا أمل الاستمرار في أفق البحث والإنعتاق.

نصطدم من جهة أخرى ‏بخطاب ‏مباشر وحازم إزاء عمل يشدّنا ‏ببساطة عناصره وتوازنها رغم تنافرها، حيث يتهاوى جسم المفكّر في هيئة ظلّية ‏في ركن من عمارة هندسية ميّزت عمل "الانعكاس-الفكر" لصاحبه أنيس بن سالم، تختزل ‏الكون إلى عوالم ثلاث يفتح لنا فيها نافذة تحدث منظورا بصريا عبر ‏تباين القيم، وتعيدالمواد العاكسة بثّ ظلال المشاهد، ليجد نفسه مرغما على اقتحام إطار العمل، والدخول ‏في تجربة تخاطر مع الجسم_الظل في مشاركة للفنان عمق الفكر وانعكاس التفكير.

وقد اشتملت بعض التجارب النحتية على تعديد في المواد راوح فيها الطاهر عبيد بين الخشب والألمنيوم ليقدّ جسد المرضعة الجالسةفي جمع طريف واستطالة مبالغة للجذع، يروم من خلالها تفعيل إشكالية اللاتناسب. وفي المقابل ‏جمعت لبنى الخرّاط في عمل بعنوان "ذاكرة المادّة" بين الحديد وأحجام متراكبة من الطين المفخور في تناوب لوني متضاد اتخذ الأسود فيه حضورا أقرب إلى المعدن، وفي تنضيد عمودي ‏ينشد البحث عن منحوتة متحوّلة‏لا تقنع بثبات المادة النهائي بل تسعى إلى تجاوز إكراهاتهاحيث "انتخبتالعمودية من بين كل الاتجاهات الهامة باعتبارها الأكثر ملائمة لتحفيز الفكر"[1].

يتخذ التعدد مع أعمال أخرى أسلوبا بنائيا حيث لا يكتمل الجزء في عمق تكوينه إلاّ في قراءة كلّية، نشاهد ذلك في خزفية لحاتم الميلادي تمتد فيها الخطوط والمستويات لتستكمل حضورها وتكمل ارتسامها المنفصل فعليا المتّصل بصريا، "إنه التجانس المطلق الذي لم تمسحه التعددية"[2].ونجد له صدى في لوحة له بعنوان "الهدّة" حيث يتخذ البناء تقسيما شريطيا أفقي الاتجاه ويتسرّب ذات الأحمر بين التواءات الخطوط ليؤكد على وحدة التمشي رغم اختلاف الوسائط.

تخرج الفسيفساء مع نسرين الغربي في عمل بعنوان "السالب/ الموجب" عن وحدتها رغم انتظامها داخل إطار لوحي ‏ذو خلفية بلورية داكنة، وتتجاوز نتوء المادة إلى بعد حجمي مضاعف تشتغل عليه الفنانة هيكليا ولونيّا وتعتمد فيه تدرّجات قيميّة محايدة مطعّمة بالألوان الترابية، في تركيب التوائي ‏يسعى لتطويع صلابة الحجارة، وفي تصفيف مائل رشيق يخرج بنا من رتابة السطح‏ ‏وينتقل بين المقعّر والمحدب. وتنفلت ‏فتحات دائرية محدثة في صلب التكوين عن موقعها، لكنها لا تتجاوزفي هذا العمل إطارها الهندسي المحدد على غير عادة الفنانة التي دأبت على التحرر منه وإطلاق العنان لأشكالها كي تنتحت لها أطرا مخصوصة، في بحث حثيث عن إمكانية الخروج بالفسيفساء من أَسرِ التزويق.

‏تأخذنا التنصيبات الخزفية إلى خارج أسوار الصالون فتذهب بنا بعيدا عبر تقنية الفيديو التوثيقية إلى فضاءات صفاقس الممتدة شمالا وجنوبا في ضفتيها البرية والبحرية، فتختار هدى الخراط ‏في تأكيد على مسار بيئي انفتاحي أن تأخذنا إلى ضفاف "الزمن المعلق" ‏حيث تتوقّف الحياة بانحباس الأمطار. وتعمل الفنانة على إعادة إحيائها من ‏خلال حركة اكساء شجرة اللوز، كرمز من رموز المشهد الطبيعي المحلي المتأثر بعامل الجفاف،وذلك باعتماد مفرداتها ‏المعلقة والمدمجة في فروعها،والمنبثقة أصلا من رحم الأرض طينا.. والمتحولة فخارا.. إلى توريقات‏رهيفة متحركة على إيقاعات النسائم العليلة.. "تعزف لحن الأرض العطشى على أوتار الغصن اليابس".. سعيا إلى إعادة بناء الخزفية صورة، فضائيا وسمعيا وبصريا.

وتتخذ في المقابل تنصيبةبإمضاء كمال الكشو ‏من شاطئ الشفار مستقرا مؤقتا لها لتتفاعل مع مسار المدّ والجزر حيث تتحول أجزاء الخزفية المنتظمة شبكيا والمثبتة على سيقان معدنية، إلى قناديل متراقصة متلألأة ألوانها، يزداد بريقها بانعكاسات أشعّة الشمس على سطوحها اللامعة في تباين مع عتامة بعضها. ويخرج بذلك الكشوبممارسته من حدود اللوح الناتئ سواء كان مفردا أو متعددا إلى أبعاد أكثر فضائية في خطوة انتقالية نحو خزفية أكثر انفتاحا علىالمتلقي، في حين تندرج تنصيبةالخراط في إطار تمشّ تشكيلي متعدد يستنفذ كل الأشكال الخزفية وبأساليب بنائية، تستثمر في ابراز إشكاليات الرهيف. وتبشّر بذلك المقترحات على تعاطٍ معاصر يخرج بالخزفية من حدود العرض الرواقي إلى حضور يخاطب المتلقي بأكثر مباشراتيةويستثيره للتفاعل والتساؤل.

يتراءى لنا التعدد منهجا اخترق عديد المقترحات، وقد طال بداية وحدة الأعمال بحيث انقسم بعضها إلى نوافذ متعددة شملت عملا تصويريا وبعض أعمال التعبير الخطي وكذا الأعمال الفوتوغرافية والتصوير الرقميكما طال المنهج معظم المحفورات والأعمال الخزفية وبعض المنحوتات..فهل اقترن في كل الأحوال برؤية جمالية يروم الفنان تفعيلها أم أنها تنشد التأكيد عبر الكثرة؟

‏من المؤكد أن مساهمات الفنانين والأساتذة هي دروس إضافية بالنسبة لطلبة ‏الفنون وهي خلاصة تجارب تشكيلية وخبرات تقنيةتتجلى ليس فقط من خلال الأعمال المنفردة بل بمراكمة المشاركات في اتصالها وانفصالها،وتتدعّم من خلال البحث الجمالي كمحرّك خفي لسيرورة التمشي،يعلّم الفنان كيف ومتى يتوقفويعيد الانطلاق من جديد، باعتبار أن الإغراق في التكرار والاجترار قد يسيء إلى أكثر التجارب أصالة.

تم نشر هذا النص : يوم 13 أفرسل 2022



[1] Fabienne Boissieras,Phénoménologie de la verticale,Littérature et architecture lieu et objet d’une rencontre,Texte réunis par Pierre Hippolyte, Revue des sciences humaines, Septentrion, France, 2010, P .107.¨L’importance de la verticale élue parmi toutes les directions significatives comme la plus apte à stimuler la pensée¨.

[2]‏فايز فوق العادة، الوحدة والتعددية في العلم والفلسفة، مجلة دراسات عربية، س. 26، ع. 4، بيروت، 1990.

تعليقات