الصحفي أمام الورقة البيضاء

الصّحفي أمام الورقة البیضاء
بقلم : محمد المي 

تواجھك الورقة البیضاء في سرك وفي علنك.....تفرض وطأتھا علیك رغما 
عنك...ودون إذن منك... حتى لكأنّھا تشعرك بضآلتك وعجزك وھروبك وعدم 
قدرتك على المواجھة لرسم اللحظة وتقییدھا وعقلھا (عقل الرجل الدّابة أي 
ربطھا) وتثبیتھا في الزمان والمكان
- ماذا أكتب؟ - أكتب!
- لا رغبة لي في الكتابة - اكتب!
- عمّا یمكن أن أكتب؟ - اكتب!
تتوالى الأوامر والضغوطات ویتكرر الفعل الواحد... رغم تنوع الإجابات 
ومحاولات الانفلات والھروب... والھارب من الرسم على الورقة البیضاء 
كالھارب من خوض اللحظة القادمة...
محاولة یائسة لعقل أنت مجبر علیه لا محالة..؟ كالقدر الذي یتلھى عنك بك 
حتى یوقعك بین حبائله ولا مناص لك من الوقوع في حفائره.
مطبات الورقة البیضاء لا حصر ولا عدّ لھا... تتجاذبك مساحتھا المھولة 
ویربكك فراغھا فتتھیّب افتضاض بكارتھا... في الوقت الذي تتشھى التحرّش بھا... فتراودك عن نفسك فتھمّ بھا وتھمّ بك حتى یقع المحظور ویكون 
فعل الاتصال والوصال والكر والفر... 

وأنت لست سوى المقاوم لمحاولة محو النسیان.
تداھمك مواضیع الساعة وتنھال علیك أخبار العالم وتحاصرك مشاكل الوطن 
وھموم أبناء شعبك وتستفزك مواقف الساسة وتصریحاتھم فتحاول عدم الاكتراث حینا وعدم المبالاة حینا آخر... فتغریك الورقة البیضاء لتكون لك متاعا وتفتح أحضانھا متسعا لتبثھا أفكارك ومواقفك وتعمل فیھا قلمك أو تنقر علیھا حروفك... فتكون كنار الله الموقدة... صارخة... ھل من مزید؟
 وكلما ألقیت فیھا حملك یسألك 
بیاضھا ھل من مزید؟
طلب الاستزادة لا ینتھي حتى لتكاد فحولتك تنھزم أمام شبقھا..
أخبار القتل والذبح وصور الدماء المسفوكة وإعلان الھزائم والنتائج ھي كل ما تعجّ به ذاكرتك...خبر عاجل مفاده: القبض على إرھابي أو تفجیر إرھابي.
فإذا رمت التخلص منھا فإن أحوال البورصة ومضارباتھا وارتفاع العملات 
مقابل ھبوط العملة الوطنیة وسیاسة الانكماش أو التقشف... وھلمجرا من 
عبارات ومصطلحات صارت خبزك الیومي حتى عاف بیاض الورقة مكونات 
حروفھا فصارت قوالب جاھزة ترصع أغلب الجمل وتزیّن جلّ الفقرات.
كتابة تقریریة، إخباریة، عجلى، أبعد غایاتھا إیصال الخبر وإبلاغ المعلومات 
حتى وإن لم یكن لھا في البلاغة باعًا أو ذراعًا.
لغة تنتمي إلى عُري الكلام...والكلام یكاد یتبرأ منھا لولا حاجة الناس إلیھا 
لمعرفة ما جدّ وما یحدث الآن وھنا.

الورقة البیضاء آكلة أكولة، نھمة، جوعى وقد قال المسعدي فیما قال: " إنه لا 
یشبع من كانت نفسه الجوع
2
تتیح لك الورقة البیضاء أن تكون الفاتق الناطق فلا تمنحك حریة الإحجام ولا 
تتیح لك فرصة التراخي أو التقاعس بل علیك أن تكتب ثم تكتب ولا خیار لك إلا 
أن تكتب...لأنك مطالب بالكتابة.
كتابة:
- ما یقال وما لا یقال
 ما یحقق أفق الانتظار وما یكسر أفق الانتظار على حد عبارة میشال ريفاتار 
- المباح والمحرم - المعلن والمسكوت عنه.
قدرك الكتابة ولا وجود لك إن لم تكتب: أنت تكتب إذن أنت موجود... : 
كوجیطو جدید.
الورقة البیضاء إطلالة على مدارات الرعب:
رعب السؤال الذي یلح علیك في تحدید موضوع الكتابة... فأنت مطالب 
للكتابة لجمھور في الظاھر معلوم وفي حقیقة أمره مجھول... تتباین ثقافته 
وتختلف انتماءاته ولا تتآلف انتظاراته... فالخبر كما علمنا جدّنا عبد القاھر 
الجرجاني: یحتمل الصدق والكذب فكیف لك أن تقنع بصدق خبرك؟... وكیف 
توصل معلومتك؟ وكیف توجّه شریحة من الناس غیر معلومة أفكارھم؟ ومجھولة 
انتماءاتھم؟ وتلك ھي معظلة المعظلات ومشكلة المشاكل
«Feuille blanche mon tyran
Mon amour si désespérant
Feuille blanche mon néant
Qu’il est dur d’être ton amant»
Pierre perret
إنك مورّط لا محالة في فضاء الورقة البیضاء ولا خیار لك غیر ملئھا بما 
سیكون بعد حین ملكا لغیرك...لیس من حقك إخفاء ما تكتب ولیس لك حق 
السكوت عما تفكر فیه حتى یختلط عندك الحمیمي بالموضوعي وتشعر أن كلماتك 
وعباراتك أصیبت بنزیف دائم وجمال ذلك النزیف ھو الورقة البیضاء التي لا 
ترتوي من حبر الكلمات.
على عجل أو في أناة... رغبة أو لا رغبة لك في الكتابة، لازمن تختاره ولا 
مكان تصطفیه فالأحداث ومجریات الأمور ھي التي تفرض علیك الموضوع 
وتملي علیك ما أنت مطالب بكتابته.
تنوّع كتاباتك فتنتقل من الخبر البرقي إلى الخبر القصیر إلى اللمحة إلى 
المقال التحلیلي إلى مقال الرأي إلى الحوار إلى الریبورتاج إلى الصورة التي 
یجب أن تعبرك عما یجیش به خاطرك ویصل حتما على ذھن قارئك.
مطالب بالصیاغة وإعادة الصیاغة، بالنظر فیما تكتب فإعادة النظر فیما تكتب 
فلا تھدأ أو لا تستقر حتى یستوي أمامك ما كتبت مطبوعا منشورا...وربما تعاود 
النظر إلیه وكأنك تكتشف لأول مرة ما كتبت.
تتبدّل الورقة البیضاء من حالتھا الأولى إلى حالتھا المشتھاة...أعني تلك التي 
تشتھي أن تراھا في نھایة الأمر...فإذا استوت أمامك مطبوعة منشورة فإن مجال تلذذك بھا لا یطول لأنك مطالب بإشاحة البصر عنھا إلى غیرھا...وكلما تراكم ما كتبت أدركت أن ما لم تكتب أكثر وأعظم.
علّمنا كارل ماركس فیما علمنا: "بأن نجعل من القمع أشد القمع بأن نضیف 
إلیه وعي القمع" وأي قمع أشد علیك حین تتملص من بنات أفكارك ومن عصارة ذھنك لتنتقل إلى مجال لا یدوم مداه.
أنت؟ ما أنت؟ لا وجود لك إن لم تكتب ! لا ھیبة لك إن لم تكتب؟ لا حضور 
لك إن لم تكتب فأنت عبد الورقة البیضاء في الوقت الذي تحسب أنك سیدھا... 
جدلیة السید والعبد: فمن یحدد وجود من؟ فھل أنت الفاتق الناطق السید الآمر 
الفاعل أم أنت العبد المفعول بك؟
علاقة حب وعشق تجمعك بالورقة البیضاء أم علاقة كره ونفور؟
 یظلّ السؤال قائما ما دامت علاقتك بالكتابة قائمة فمتى ینتھي الإنسان من الكتابة؟ متى ینتھي من نشوة لا یتحقق وجودھا إلا بھا؟
كتبت غادة السمان قصیدا عنوانه:
الورقة البیضاء وطن
"اكتب كمن یعمّر بیتا حرفًا حرفًا وحجرًا حجرًا ویقطنه ھاربًا من تشرده الأزلي 
في وطن الخراب غیر الجمیل
لقد قضیت عمري تائھة بین القارات والقلوب والفنادق ولم أنعم یوما بأي 
أمان
إلا داخل مغاور حروفي...
فی الكھوف المائیة الزرق المحیرة
استطعت أن أنجو من معاقل الموت بین الماء والماء واخترعت صیفي رغم 
العقاب المرصود للعیون العاریة."
عذابات الكتابة الصحفیة لا یعرفھا إلا من دفع إلى مضایقھا لذلك لا غرابة أن 
تتحول متعة الكتابة إلى ضرب من ضروب القمع والتسلط والعنف الذي تمارسه على نفسك بنفسك ولا مناص لك في النھایة إلا أن تتجرع عذاباتك فتنتشي بھا  وتحول مرارتھا إلى حلاوة ساعتھا تنظر إلى بیاض الورقة كفضاء من فضاءات  الإمتاع والمؤانسة.

نص المداخلة التي ألقيتها في المعهد العالي ابن شرف


تعليقات