حول تجربة اليانقي الخزفية


بقلم: محمد المي

" قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ "       سورة الأعراف الآية 12

في لاوعينا نعادي النار
وفي وعينا نخشى النار

         قدرنا تمجيد مما خلقتا..لذلك فان علاقتنا بالطين علاقة حب وتحنان وتماه بل بحث متواصل فيما خلقنا منه وحذر في التعامل معه. وبهتة وشرود مما خلقتا الله..وتساؤل عن سر الخلق وكيفيته..ومن هنا نبدا.

         عايشت عودة الفنان محمد اليانقي منذ سنوات ثلاث خلت عندما أشعرني محمد الحشيشة برغبته في استمالته واعادته إلى أجواء الخلق والابداع فحاورت اليانقي ونشرت له بعض النصوص ( وهو كاتب ومنظر لتجربته) ثم واكبت عمله في سيدي قاسم الجليزي وهو يعد الصبائغ والالوان بموازين رقمية دقيقة تماما كالكيميائي الذي يعد معادلة كيميائية.

          يقيد في كراس كاللوح المحفوظ تركيبة الألوان وما نتج عن تلك التركيبة فاما يأخذ به أو يتركه ليمرّ الى غيرها بصبر كبير فينبهر للنتيجة التي توصّل اليها وكأنه اكتشف اكتشافا كبيرا حينها تدرك أن المسألة لا تتصل بالعلم والمعرفة فقط بل بالشغف والحب وبالاصرار والتحدّي وأن عمل الخزّاف لا يقتصر على دلك الطين وعجنه وعركه واستنباط الأشكال فقط وانما التفكير في مصيره وقد استوى شكلا نهائيا .
           خرجت أعمال اليانقي بعد عناء ومكابدة وطول انتظار فكان مترددا ، خائفا ، مقبلا ،مدبرا ...حيرة الفنان وقد انقطع عن فنه وهجره مليا ثم عاد إليه يسائله ويسائل وجدانه: هل بقي في القلب حب ؟ ويسائل ذاكرته: هل بقي في البال شيء ؟ 
                 مادام في العمر بقية فالحلم من ممكنات هذه الدنيا.
                 لم يخرج اليانقي إلى الناس بأعمال خزفية قائمة بذاتها بل جعلها في لوحات وفي أطر تماما كاللوحات الأكريليكية .
            اختار أن يجسّم أعماله الابداعية في شكل ألواح خزفية مسطّحة قصد ابراز مدى التماهي والتماثل بين اللوح واللوحة اذ لا يمكن أن نفصل في المشاهدة بين معرض الخزف ومعرض اللوحات بل لا تكتمل مشهدية البصر ومغامرة التبصر الا بزيارة المعرضين . وهذا قصده اليانقي بل أصر عليه .  
لا يفهم هذا الا بذاك . ولا يكتمل هذا الا بهذا . وهنا تأتي فرادة المغامرة الابداعية .
           لهذا السبب استعملت كلمة المعلم عندما تحدثت عن اليانقي محاولا تقليد دانتي في الكوميديا الالاهية عندما تخدث عن أرسطو لأن هذه الأعمال جديرة بأن تدرس فتتعلم منها الأجيال  : اي علاقة ممكنة بين الخزف واللوحات المسندية ؟ لأن ما استقر في الأذهان هو الفصل التام حتى أصبح الفنان الذي يستعمل الاكريليك أو الألوان الزيتية أو المائية يرى نفسه غير معني بالخزف وغير معني كذلك بالنحت وغير معني بالحفر ...الخ فجعل كل لنفسه حانوتا أو دكانا لينتصب فيه وهو ما سهل الانتصاب الفوضوي وعقلية الشلل والعصابات وتلك مسألة أخرى.
        أردت التعريج على هذا قصد القول بضرورة فتح الأبواب المغلقة في العقول للتدرب على الفهم بعد ممارسة رياضة التبصر.
            معرض اليانقي يمكنك من تبصر العلاقات الممكنة بين فنون هي في الاصل متقاربة باعد بينها الجهلاء.

        الفن هو الممكن الذي لا يعرف المستحيل ...اذ يكفي أن تجعل ذهنك يقبل بالممكن حتى يصير الممكن ممكنا.

     كذا تبدو خزفيات محمد اليانقي ذات الأشكال المستطيلة والمربعة والمحفوزة في أطر خشبية تدعوك إلى تأمل ألوانها وطلاءاتها والتخريجات الصبغية فيها فيصبح البحث مقصورا على الطلاءات وما يمكن أن ينتج عن تفاعلاتها مع الخزف الذي صهدته درجات نارية مرتفعة أحيانا ومنخفضة لتعطي نتائج ترضي الفنان فيصطفيها ضمن مختاراته .
        هكذا تجد نفسك أمام خزفية تروي تجارب فنان عرك الطين ونفخ فيه من موهبته وذوقه حتى انعكس جهده الذي بذله فما اطمأن إليه الاطمئنان كله .
ينظر الفنان إلى أعماله نظرة الرضاء ونظرة الندم وكأن لسان حاله يقول كان بالامكان أفضل مما كان ...وهيهات ..هيهات أن يستقر على حال .
 " على قلق كأن الريح تكتب "
وقلق الفنان هو دافعه للابداع بشيء لا على مثال سابق.
متعة مشاهدة أعمال محمد اليانقي والتعلم منها ومساءلتها لا تكون ألا بمعاودة النظر إليها واستقصاء دواخلها دون التوقف عند ظاهرها.
         


تعليقات

إرسال تعليق