قراءة في قصيدة " ذلك هو أنا"

قراءة في قصيدة "ذلك هو أنا"


للشاعر عبدالسادة البصري 

بقلم : عادل السرحان

هو شاعرٌ تشبعت نفسه بعبق الجنوب وحنّاء الفاو وطينة أرضه وشغلت ذكريات المكان والزمان مساحة ملفتة في قصائده فبأي دلالة يفعل ذلك ؟ ….


القصيدة 

( ذلكَ هو  أنا)


الراكبُ خيالاته دائماً

ذلك الواقفُ

عند حافّة السفح

متأملاً الوادي

لعينيهِ بريقٌ

وفي أذُنَيهِ صدى

على أصابعِهِ ترقصُ العصافير

وقلبُهُ يفيضُ حنيناً ومودّة !

ودموعُهُ انهار  ......

ذلك هو.......أنا !

#########

الباحثُ عن مكانٍ

 بين رفوفِ التذكارِ وخيالاتِ المعنى

القابعُ في أدراجِ الحلمِ الوردي

المالكُ ضياعَهُ

والحالمُ في كل وقتٍ

ببيتٍ يأويه ...... وعياله ،

ذلك هو......أنا !!

#########

العنكبوتُ ينسجُ بيتَهُ

العصفورُ يجمعُ الأعوادَ لعُشّهِ

وكلّ الكائنات لها مأوى

الاّ....أنا !!

لم أزلْ هكذا دائماً

أفتّشُ في (درابين ) الحياةِ

عن معنى لحياتي

التي أحياها بلا .......

مأوى !!


في قصيدته ( ذلك هو أنا) ربّما نجد بعضاً من ملامح الجواب 


العنوان :

وعنوان القصيدة ابتدأ باسم الإشارة للبعيد (ذلك) ثم جاء بضمير الغائب (هو) والمقصود طبعاً الشاعر نفسه 

ثم بضمير المتكلم ( أنا) وكل ذلك مجتمعاً يوحي بقلق وتشتت داخلي 

-على الأقل في سياق هذه القصيدة- 

وكأنه يريد أن يقول أن ذلك البعيد الغائب هو أنا الحاضر والعكس يصح كذلك .


الراكبُ خيالاته دائماً

ذلك الواقفُ

عند حافّة السفح

متأملاً الوادي

لعينيهِ بريقٌ

وفي أذُنَيهِ صدى

على أصابعِهِ ترقصُ العصافير

وقلبُهُ يفيضُ حنيناً ومودّة !

ودموعُهُ انهار  ......

ذلك هو.......أنا !


المقطع الأول 


وحين ابتدأ القصيدة 

جاء بإسم الفاعل ( الراكب) والذي سنلاحظ تكراره في القصيدة لاحقاً 

وهو الدال على الثبوت والاستمرار ثم الحق ذلك بقوله ( دائما) ،كل ذلك ليرسم ملامح الصورة الشعرية التي يقتضيها المعنى المختبئ خلف الكلمات .


الراكب خيالاته دائماً ، هل الخيالات هنا 

الهروب من الواقع ، أم البحث عن غدٍ لازال بعيداً عن متناول اليد ؟

إنَّ إشارته الثانية لذاته بالبعيد ( ذلك ) 

الواقف عند حافّة السفح متأملاً الوادي 

تعزز صورة القلق والإضطراب الداخلي 

هل وقوفه هذا يحمل رمزية نهاية

العمر وضياع الأحلام في هاوية التقلبات السياسية والإجتماعية التي شهدتها بيئته داخل العراق ؟ 

ربما ،ولكن  مايزيد ميلي لهذا التفسير 

إنه  قال : لعينيه بريق وفي أذنيه صدى

فالبريق يتأتى من غضب على حالة ومن دموع تُسكبُ حرقة وأسفا، وهو يسمع صدى السنين الضائعات وصدى تلك الأحلام وربما صدى آهاته في ذلك الوادي الذي يحس به ويراه دون غيره وأراد لنا ببراعة أن نراه ونسمع مافيه .

وجاء هنا بصورة جميلة لتربط مابين ألمه مما كان وبين السلام والرقة التي يحملها داخله والتي تثير استغرابه فكيف يكون جزاء من هذه صفاته 

كل هذا العناء والقهر والضياع ؟!


على أصابعه ترقص العصافير 

وقلبه يفيض حنيناً ومودّة

ودموعه أنهار 

ذلك هو أنا 


المقطع الثاني 

وفيه  نقرأ:


الباحثُ عن مكانٍ

 بين رفوفِ التذكارِ وخيالاتِ المعنى

القابعُ في أدراجِ الحلمِ الوردي

المالكُ ضياعَهُ

والحالمُ في كل وقتٍ

ببيتٍ يأويه ...... وعياله ،

ذلك هو......أنا !!


ولايزال يأتي بصيغة اسم الفاعل 

ويكررها ( الباحث ، القابع ، المالك ، الحالم) كل ذلك بدلالة الثبوب والاستمرار كما سلف ، 

هو يبحث عن مكان قد ضاع مذ غادر 

الفاو ولم يجده للآن ولاشك ان الشاعر 

حين يتكلم عن ذاته هو لايعنيها هي فقط بل يسقط ذلك على كل مجتمعه الذي يعاني معاناته .

وبعد أن ضاع المكان الحُلم في الواقع راح يفتش عنه بين رفوف التذكار وخيالات المعنى  لعلّهُ يجده أو يشارك في ايجاده من جديد عبر نظرة جديدة للحياة بكاملها ، فهو لم ييأس ولازال قابعاً منزوياً مفتشاً في أدراج حلمه الوردي عن الخلاص وعن بصيص أملٍ بغد أفضل ، وهو المالكُ ضياعه وأي خيبة أكبرُ من أن لايملك المرء سوى ضياعه ؟! فيظلُّ يحلمُ في كل وقتٍ ببيت يأويه هو وعياله وهذا الحلُم يعبر عن انتكاسة في حق الانسان في مسكن مناسب داخل رقعة جغرافية تدعى الوطن وهو سرّ ثورته على الواقع في هذه القصيدة .


المقطع الثالث :

ثم يأتي المقطع الثالث والأخير وهو الأشد إيلاماً لنفس الشاعر ولمن يقرأ القصيدة إذ يصرخ محتجاًّ:

 العنكبوتُ ينسجُ بيتَهُ

العصفورُ يجمعُ الأعوادَ لعُشّهِ

وكلّ الكائنات لها مأوى

الاّ....أنا !!

لم أزلْ هكذا دائماً

أفتّشُ في (درابين ) الحياةِ

عن معنى لحياتي

التي أحياها بلا .......

مأوى !!


وهنا يقف ليقارن بين الإنسان ومادونه من شركاء الأرض، ويتتبع  كيف يبني العنكبوت بيته والعصفور عُشّهُ بإرادة 

غير مسلوبة ، عكس مايحصل مع إنسان بيئته ،مقارنة فيها إدانة صريحة لمن أوصل العراق لهذا الفصل البائس من حياة شعبه ، وإذ تأوي كل الكائنات إلى مأواها  يجد الشاعر نفسه بلا مأوى 

يستقرُّ فيه ويستريح ، فسيف الايجار المسلط على من دخله محدود لايمنح المكان صفة المأوى  والعشوائيات ليست مأوى  والعوز ليس مأوى واليتم وجيوش الأرامل لايترك  للانسان مأوى في أرض تتسع خيراتها لشعوب أخرى ناهيك عن شعب العراق وحده .


ثم يعود الشاعر ليُذكّرْ

لم أزل هكذا دائماً ، وهذه لفتة نحو العراق الذي يحلم به  ونحلم به معه والذي لم يأت بعدُ ، (أفتّشُ في درابين الحياة )  كناية عن ملاحقة الحلم الذي تفرق في دروب حياة العراقيين والتي لاخيار حُر لهم فيها  .

ويتساءل من جديد عن معنى الحياة بلا مأوى  وسواء كان المأوى معنوياً أم مادياً فهو تساؤل مشروع ترك الشاعر الإجابة عليه مفتوحة لمن يقرأ نصه هذا.

عبدالسادة البصري

عادل السرحان 

كانون الأول ٢٠٢٢ هنا لبدء الإنشاء ...

تعليقات