الغرابة في التغريب

 

الغرابة في التغريب

الباحث: مجيد عبدالواحد النجار     

الغريب هو كل شيء لم يعرفه ولم يألفه ولم يسمع به الانسان،وهو مايدفعه الى السؤال عنه ان كان بحاجة اليه او تجاهله ان كان عكس ذلك، اما التغريب فهو ذلك الشيء الذي يكون بفعل فاعل، ولكن كيف يُغرب هذا الشيء لكي يعرضه على الاخرين، كيف يعرف ان الاخرين لا يعرفونه؟، او لم يسمعوا به، كيف يمكن ان يطرحه على الاخرين وهو لم يعرف ثقافتهم وادراكم لما سيطرح لهم؟ كيف يعرف ادراكهم واصرارهم على المعرفة.

اذن لو وضعنا هذه الاسئلة واسئلة اخرى الى مفهوم التغريب لدى برخت ، ماذا يحصل؟ والى اين نصل؟ ، وهو الذي ركز بفلسفته من اجل الوصول الى المجتمع على ركنين اساسيين هما:أولهما عنصر التغريب ، والثانيالعنصر الملحمية.

فقد دعى الى تغريب الاحداث على المسرح، ولا تعرض كما هي في الحياة الاعتيادية ، وعلية عندما اريد ان انقل حادثة ما والتي يكون الانسان مصدرها ، ينبغي ان لا اضع نفسي مكانه ، بل يجب ان أكون في مواجهة معه ، واطرح القضية بمعناها الشمولي([1]). كما ان هذاالاغراب يلغي من الممثل صفة التمثيل ، ويضفي عليه صفة العارض ، أي عرض الشخوص والاحداث عرضا موضوعيا من غير التأثر بها او تمثيلها بالمعنى الدقيق ، والتأثير بالمتفرج من حيث القيام بالدور المطلوب بالطريقة الاندماجية([2]).

ان التغريب من اهم عناصر المسرح الملحمي ، وهذا العنصر كما اسلفنا يهتم بالفكرة الأساسية لبرخت  في طرح قضايا الانسان الاجتماعية ، وهنا يطرحها لا بصيغتها الاعتيادية المعتاد عليها بل يطرحها لأنها غريبة عنا غريبة عن المجتمع والإنسانية ، ومن خلال هذا الطرح يكون الجانب التأثيري على المتفرج اكثر، لأنه يدعوه لطرح اسئلة كثيرة على ما شاهده على خشبة المسرح([3]).

هذا الطرح يتحمل وجهين ، الوجه الأول في مجال الكتابة ، والوجه الثاني في مجال العرض .

طبعا من الممكن ان يكتب الكاتب ما يشاء من القصة التي يريد ان يرويها ، وهذا يشمل كاتب القصة او الرواية او المسرحية ، ولكن هل هذا مثلا يصح في كتابة الروايات التاريخية ، كيف يمكن ان يجعلها الكاتب غريبة علينا ، فيما اذا عرفنا ان هذه القصة معروفة لدى الجميع ، فمثلا: كيف يمكن تغريب قصة ( خالد ابن الوليد) او كيف يمكن تغريب قصة (السيد المسيح) ، او قصة (عمر المختار) كيف لهذه القصص ان يجعلها الكاتب المسرحي غريبة عن المتفرج وهو الذي حفظ ادق تفاصيلها، هل يكفي ان اتحدث بصيغة الماضي عن الشخصية لأكون بعيدا عنها او لأجعلها غريبة، ولو تابعنا اعمال السير الذاتية التي عرضت ، لوجدنا انها عرضت كما هي متداوله وكما هي محفوظة بالذاكرة الجمعية ، مع بعض التغيرات الفنية والتي لا تأثر على سير الاحداث المحفوظة في الذاكرة الجمعية، أي الخط العام للقصة . اذن ان القصص التي تطرح على المسرح والتي تكون من الخيال او قصة غير معروفة ، فهي قصة (غريبة) بطبيعتها على الجمهور ولا تحتاج الى التغريب ، اذن من الممكن ان يتصرف الكاتب في بعض القصص ، ولكن ليس من باب تغريبها بل من اجل ان تكون واضحة وفيها من التشويق، والفائدة، والمتعة والاثارة الشيء الكثير للمتفرج وهذا بحد ذاته يحمل الجانب الإيجابي اثناء العرض.

قرئنا في الكتب المسرحية عن تغريب القصة المعروفة في حادثة السيارة التي يروونها لنا لكي نتعرف عن معنى التغريب، فيقول لك ان مشاهدتك لحاث السيارة يجب ان لا تنقله كما هو بل ان تغربه، كيف؟ والذين شاهدوا الحادث معي ماذا موقفهم ؟ ماذا اقول لهم؟ كيف ابرر لهم هذا التغريب؟ وكيف اغرب لهم حادثة شاهدوها، الا يعتر الاخرين اني اخادعهم او ازور الحقيقة التي انقلها لهم؟ لقد كانت قصة مسرحية (الام شجاعة)- وهي المأخوذة عن رواية للكاتب الروسي مكسيم غوركي بنفس الاسم - عن ام تستغل الحروب من اجل لقمة العيش، اين التغريب في هذا،(العريف:.... انتِ تريدين ان تعيشي من الحرب)، تريد ان تعيش وليس التجارة!وليس دعم الحرب! هذا ما يحصل في الحروب دائما، الكثير يستفاد منها للعيش، ومنهم من يتاجر في الاسلحة لأدامتها، وهذه التجارة طبعا تحتاج الى شخص يزاولها على ارض الواقع، طيباليس التغريب(هو جعل كل ما هو مألوف غريبا) هذا كله مألوف،اذن ما هو التغريب في ذلك؟، هل التغريب في مسرحية الام شجاعة، انها فضلت العمل على موت ابنائها؟، يوجد كثيرفي العالم من الأمهات للاتي رمين اطفالهن الرضع على قارعة الطريق، او حتى الاباء لا يبالون بعوائلهم، وكثير من هذه القصص عرضت على خشبات المسرح او في السينما، كما نقلها لنا بعض القصاصين والروائيين ، ومن الممكن طرح امثلة كثيرة على ذلك ، لكني واثق ان القارئ قد مر بهذه الاحداث في الحياة الواقعية او الخيالية، اذن لا يوجد غرابة في مجتمع يطرد الابن اباه، او الابن امه، او ان يقتل الاب ابنه من اجل حفنة من المال، وهذه الاحداث سمعنا عنها وعايشناها في حياتنا اليومية، اذن اين الغرابة؟، وكيف اغرب الحادثة؟، وهل تعني الغرابة بان اظهر الام المعروف عنها بالحب والحنان ، لا تهتم بأولادها ، هل هذا غريب في هذا المجتمع التعس؟ الا يوجد في الحياة العادية،  وهنا ولابد من الاشارة الى ان ما نتحدث عنه هنا (التغريب) في النص المسرحي، يعني نحن نتحدث عن الادب وليس المسرح لان حديثنا عن المسرح يعني ان نتحدث عن العرض(مخرج – ممثل – جمهور).وما اقصده انني كيف اغرب حادثة لمسرحية كتبها (شكسبير) او(مولير) او(اسخيلوس) دون التلاعب بالأحداث، وحسب، نظرية المسرح الملحمي، اذن التغريب في الاساس،(نص مسرحي مكتوب)، ومن ثم يأتي العرض، اذن لماذا اتحدث عن التغريب في المسرح، ولا اتحدث عنه في الادب.

 ارى ان التغريب الذي يقصده برخت هو ليس ان تغرب الحادثة التي حدثت في الواقع – لان الفن بصورة عامة هو تدوير للواقع ، وكثيرا ما يحتاج كاتب القصة او المسرحية الى دراسة الواقع ومعايشته من اجل الخروج بقصة يضعها هو كما يراها وكما يتمنى ان يكون الواقع عليه ، بشرط ان لا يكون نقلا صوريا، بل ان ينقل من وجهت نظر الكاتب – بل ان تطرح الموضوع باختلاف ما بباطنه، وهنا لابد ان نتذكر ان ارسطو اكد على ان الدراما هي(محاكاة افعال الناس)، يعني ليس الناس انفسهم ومن ثم تقليدهم؟، بل التغريب هو ان تأتي بما هو غريب فعلا على الجمهور، مواضيع غير مطروقة او مسموعة، مواضيع بعيدة عن حتى مخيلة المتفرجين ، مواضيع لا تخطر على بال اي احد، وهذا يعتمد على مخيلة الكاتب وحرفته في العمل. واذا كان لا بد ان يكون تغريب في المسرح ، فالغرابة حاصلة، ليس بفعل الممثل، وانما بوعي المتفرج الذي (يستغرب) اصلا كيف يقوم الممثل بإجادة لعب دور(المتسول) او(الملك) او (المجنون)، ومن الممكن ان يكون هذا الممثل معروف (بخجله) في الحي.

أعتقد ان ما دفع برخت بالأساس الى الدعوة لتغريب الأشياء هو شخصيته المزدوجة ، بالرغم من التزامه بالشيوعية ، الا ان الغموض واضح في كثير من اعماله ، واعماله خداعة ومغرية ، لأنه فنان منقسم على نفسه ، فهو صريح وخفي معا ، وبسيط ومعقد معا في ان واحد ، ولذلك فان ثورته موجهة في ظاهرها ضد نفاق المجتمع البرجوازي وجشعة وظلمه ، وفي باطنها موجة ضد عدم النظام في الكون والفوضى في النفس البشرية. فشخصية برشت الازدواجية اثرت تأثير كاملا فيما يقدمه من اعمال مسرحية ، فالمتغيرات في حياته وتأثيرات النفسية نجدها واضحة في اعماله فهو ذلك الانسان المتكون من خليط بسائط كثيرة ومتباينة... وهو الذي بعضه مثالي والبعض الاخر متساهل ساخر([4]). واذا اخذنا هذا المعنى – اختلاف الظاهر عن الباطن بالطرح – يقودنا الى ما يسمى بـ (التشفير) الذي اشتغل عليه الكثير من المخرجين يدفعهم الى ذلك التقدم العلمي والثقافي في الطرح واحترام وعي المشاهد ، والبعض الاخر خوفا من السلطة او من الرقيب، بمعنى هم ايضا غربوا الحادثة ولكن ليس بالطريقة البرشتيه، بل بطريقة علمية واعية ، لا تحتاج الى تنظير، بل كلما ارادوا هؤلاء الكتاب طرحه، قدم على خشبات المسرح، بالطريقة الحياتية اليومية، لان الحياة فيها المخادعون ، وفيها الماكرون، الذين يقولون اشياء غريبة لا يقبلها العقل او المنطق، ومرة تقدم بطريقة ذكية ، كما هو معمول في القول المأثور(اياك اعني وسمعي ياجارة)، او بطريقة(الرمز)او (التشفير) كل هذه الطرق تعني ان بإمكان الكاتب ان يقدم الاحداث ليس كما هي بل بطريقة مغايرة، دون العودة الى (تغريب الحادث) لأنه بالأساس كل شيء لم يعرفه الانسان فهو غريب عليه ولا يحتاج الى وضع نظرية اعمل بها. هذا اذا ما علما ان اكثر الحوادث مصدرها الانسان، لماذا الاصرار على تغريب هذه الحوادث بالتحديد اذا ما كنا نعيش بهذا الكون كبشر، والاحداث اغلبها تحدث امام اعيننا او نسمع بها، وبعد ما دخلت وسائل التواصل الاجتماعي التي تطرح كل ما يحث بالدقيقة والثانية، كيف للكاتب عندما يستلهم من هذه الاحداث قصصا ويغربها. واغلبنا يعرف الثورة الصناعية التي حدثت في ايطاليا، فهي الاخرى جعلت الانسان غريبا في مجتمعة وهو يرى (الحافلة) وهي تنقله من مكان الى اخر، او في المعمل وهو يرى(الالة) تعمل نيابة عنه، او في الحقل وهو يرى(الماكنة) تحرث الارض، وفي المكتب وهو يرى (الطابعة) تكتب عنه.

لماذا يؤكد برخت اذن ان نظريته هي المثلى في طرح القضايا الإنسانية، الم يكتب اسخيلوس، اويوريبيدس، او سنكا، او مولير، اوشكسبير، او... وكثير من الكتاب الم يطرحوا قضايا انسانية في اعمالهم المسرحية، وحتى الكتاب المسرحيين الذين جايلوا برخت، الم يطرحوا قضايا إنسانية بأعمالهم، كيف لا والمسرح انساني اجتماعي، ولا يمكن لأي كاتب ان يتخلى في كتابته، عن الانسانية والمجتمع.

اما موضوعة (ان التغريبيلغي عن الممثل صفة التمثيل) علينا في البدء ان نعرف ما هو التمثيل؛من ضمن التعاريف العديدة لفن التمثيل هو: التعريف اللغوي والذي يقول: (تَمثل بالشيء : تشبه به ، ويقول المحدثون تمثل الادب كانه مزجه بذاته (...) والتمثيل مصطلح من علم النفس يدل على عملية سيكولوجيه غير واعية يميل الانسان من خلالها الى التشبه بالإنسان الاخر (...) والتمثيل في المسرح مختلف عنه في السينما والتلفزيون ، ففي المسرح يظل تصوير الواقع مهما كان دقيقا يخضع بشكل او بآخر لنوع من الأسلبة او الشرطية([5]). ويقول اخر انها مهنة قديمة كان يعبر بها الانسان عن ذاته بالإيماءة والرقص ثم بعد ذلك بالحوار الدرامي([6]). اذن مهنة التمثيل موجودة منذ القدم استعملها الانسان من اجل التقارب مع الشيء الذي يعرضه ، ولو ابتعد عن هذا فيصبح غير ذلك ، فمثلا (الحكواتي) كان يروي الاحداث لكنه لا يمكن ان يكون ممثلا رغم انه كان يصف الأشياء ، اذن هو ( واصف للأشياء) وليس ممثل ، لأنه لا يتمكن من الاقتراب من الشخصية فهو (ناقل لها) وكذلك (الراوي) فهو لا يمثل الشخصية بل هو ينقل الاحداث التي حدثت للشخصية رغم انه يوصف الأشياء بحركة يديه او راسه ، لكن هذه الحركات لا يمكن ان يقال عنها تمثيل ، بل هو يوصف الأشياء ، فمثلا يقول (وكانت السيارة تسير بسرعة كبيرة) فنراه يضخم صوته ، ويحرك يده من الخلف الى الامام بسرعة ، لكي يوصف الحركة ، او يقول كان السائق رجل كبيرا ، فنراه (يقلد) صوت الرجل الكبير ، ويحني ضهره قليلا ، وهذه الحركات يؤديها دون معرفة ابعاد الشخصية الاجتماعية او الثقافية مثلا وحتى لم يسئل عنها ، بل هو هكذا يتصور له فيعرضها دون دراسة معمقة للشخصية.

ولكن فيما يخص التمثيل على خشبة المسرح، او حتى في السينما، فالموضوع مختلف جدا، لا بد للممثل ان يدرس ابعاد الشخصية التي يؤديها، من اجل ان يقنع المتفرج بها، فهو ليس من مهمته ان يتلاعب بأفكار المتفرج ، لان المتفرج جاء للعرض لكي يتعلم شيئا مما يقدم من افكار، ولكي يستمتع بالعرض من خلال التشويق الذي يقوم به الممثل، اذن انا من اجل ان اثقف الجمهور، ومن اجل ان اعلم الجمهور، ومن اجل ان اجعل الجمهور يفكر في العرض، ليس بالضرورة ان (أغرب) الاشياء بل بما اقدمه من افكار، وكذلك طريقة التقديم، يجب ان لا اجعلها بسيطة وسهله الفهم السريع، ولابد ان اقدمها بطريقة رمزية او تجريدية، وهنا سيكون المتفرج متابع بدقة من اجل فك الرموز ووضع الحلول المسبقة للعرض،وطبعا تلعب ثقافته دورا كبيرا في فهم وتفسير ما يحدث، وقد قدمت عروض كثيرة على هذا النمط، مثلما قدمت عروضا سريالية ، فهي كانت تحمل شفرات متعددة، تفرض على المتفرج ان يكون يقضا من اجل حلها، والممثل في ولقع الحال (يحاكي) افعال الشخصيات، ولا يحتاج لإيهام الاخرين بها.

 



[1]) ينظر : د ماري الياس ود حنان قصاب حسن ، المعجم المسرحي ، ط2 ( مكتبة لبنان ناشرون ، بيروت ، 2006)، ص456.

[2]) ينظر : يوسف عبد المسيح ثروت ، معالم الدراما في العصر الحديث ، (المكتبة العصرية ، بيروت ، ب، ت)، ص86.

[3]) ينظر : أريك بنتلي ، نظرية المسرح الملحمي ، ترجمة: يوسف عبد المسيح ثروت ، ط2 ،( دار الشؤون الثقافية العامة ، افاق عربية ، بغداد ، 1986) ، ص82.

[4]) ينظر : روبرت بروستاين ، المسرح الثوري ، ترجمة : عبد الحليم البشلاوي ،( دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، ب، ت)، ص 205 - 206

[5]) د ماري الياس ود حنان قصاب حسن ، المعجم المسرحي ، المصدر السابق ،ص147.

[6]) ينظر : د إبراهيم حماده ، معجم المصطلحات لدرامية والمسرحية ،(دار الشعب ، القاهرة ، 1971) ، ص111.

تعليقات