أعمال الزبير التركي استشراق أم استلهام للتراث



أعمال الزبير التركي
استشراق أم استلهام للتراث

                                                           محمد المي/ كاتب، تونس



بقدر ما يبدو الكلام على الرسام والفنان الكبير الزبير التركي مغريا فإنه يعدّ مغامرة محفوفة بالمزالق، ذلك أن الرجل يكاد يكون نسيجا وحده أو ظاهرة متفردة بذاتها لم تُسبق ولم تُلحق إلى حد يومنا الراهن.

هو ابن الأزقة والحارات الشعبية ولد يوم تأسست أول نقابة في تونس والعالم العربي سنة 1924 عندما تأصلت الهوة بين الشعب التونسي والمستعمر الفرنسي وقرر عمال تونس تكوين نقابة تونسية صميمة، إذ بدأ التونسي يعي بمقومات ذاته وينشد خصوصية تميّزه.

التحق الزبير التركي بالجامع الأعظم، جامع الزيتونة المعمور فمدرسة الدراسات  العليا فمدرسة الفنون الجميلة لفترة قصيرة من 1953 إلى 1957 ثم إلى السويد حيث انتسب إلى مدرستها وتفتّح وعيه على تجربة مختلفة وثقافة لا تشبه الثقافتين العربية أو الفرنسية .

منذ عودته سنة 1965 انخرط الزبير التركي في أجواء البلاد الخارجة لتوها من استعمار بغيض هيمنت عليها طيلة سبعة عقود وعمل على طمس هويتها وتغييب شخصيتها .

   كانت النداءات متعالية بضرورة  نحت الكيان وتأصيل الشخصية التونسية والحديث قائم عن الأمة التونسية بل القومية  التونسية في مواجهة المد العروبي والشعارات التي كانت تفد علينا من المشرق العربي... فيما كانت الدولة البورقيبية تقاوم  تلك النداءات  وتحاول أن تقنع بزيف الشعارات والالتفاف حول الفكر البورقيبي والخيار القطري ( 1).

1-    الانخراط في التوجهات العامة للبلاد

    لم يختر الزبير التركي معارضة سياسة الدولة بل انخرط فيها بوعي وعن قصد فكان رسام المجلات والجرائد والكتب المدرسية والأدبية  ورسم الجداريات وعيّن مستشارا ثقافيا ورئيسا للجنة الثقافية الوطنية وكان محددا لسياسات الدولة وخياراتها وواضعا لتوجهاتها في كيفية التعامل مع الفنون التشكيلية .

   لقد ترأس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية والخطاطين وظل في هذا المنصب لمدة ثمانية سنوات، وأسس مركز الفن الحي لمدينة تونس حيث جاء في خطاب تأسيسه :
" إن أهم ما ترتكز عليه رسالته ( يعني رسالة المركز) تحت رعاية وزارة 


  الشؤون الثقافية  وبمساعدتها  هو تأصيل التذوق الفني عند المواطن ".

          ثم يضيف : " إن مركز الفن الحي  لمدينة تونس يفضل  المكانة الممتازة التي سيكسبها بلا شك في الحياة القومية لقادر على إعلاء صوت الثقافة التونسية من وراء الحدود  شاهدا في العالم على حركيتها وثرائها ".
إذا ما تأملنا كلمات من قبيل:
-         تأصيل التذوق الفني
-         الحياة القومية
-         إعلاء صوت الثقافة التونسية
        أدركنا أن الشخص الذي عُهد إليه بالتأسيس يردد الشعارات الرسمية للدولة ويؤكد على توجهاتها العامة ويحدد التمشي الذي يجب أن يكون عليه الفن التشكيلي ويرسم ملامح الفنان التشكيلي ودوره في الدولة الوطنية الناهضة.

لقد كان هاجس التونسة والتأصيل هو الملازم لخطاب الدولة ووجدنا وزير الثقافة آنذاك الشاذلي القليبي يعّبر عن هذا الإشكال بقوله:
" نحن  نشهد الآن انطلاقة عارمة للفنون الجميلة التي أصبحت تسمى بالفنون التشكيلية وهي حديثة عهد في مجتمعاتنا العربية، ولا تزال تقتبس أساليبها وأنماطها من الخارج وان هي بدأت تجهد لبث روح تونسية فيما نقتبسه لان جوهر المشكل يعود أساسا إلى خلق  لغة "تونسية "  في الفنون التشكيلية  تعبّر بطرافة وعمق عن حساسية جميلة أصيلة" ( 2).
2-    مسألة الاستشراق

لعلّ كلمة وزير الثقافة تعيننا على فهم ما كان يدور من لغط حول الفن التشكيلي التونسي بعد الاستقلال إذ أن مدرسة تونس (3) التي كان من بين أعضائها الزبير التركي هي من اتّجهت إليها أصابع الاتهام للإقرار بنزعة الاستشراق وقد عبر علي اللواتي عن ذلك في الكاتالوق الصادر عن دار الفنون  عن هذه الإشكالية صراحة ( 4).

   غير أن التهمة التي التصقت بالجماعة لا يمكن أن تطال كل الأفراد، فلئن صحّت على البعض فإنها لا يمكن أن تستقيم على كافة أفراد المدرسة وخاصة على الزبير التركي .

         توظيف التراث عند ا لزبير التركي
يلحظ المتأمل في أعمال الرسام والفنان التشكيلي الكبير الزبير التركي أنها لا تخرج عن ثلاثة مسائل كبرى
-         التونسة
-         توظيف التراث
-         الاهتمام بالإنسان موضوعا لا حياد عنه.

إذ لم يعمد في رسومه غواية اللون فاستعاض عنها بتخطيطات ورسوم تركز على الملامح وتقتفي  مميزات شخوصه التي اختارها من صميم الواقع التونسي ليعكس طقوسا اجتماعية وعادات وتقاليد تؤكد الانتماء الثقافي والانغراس في الشخصية التونسية بمختلف تمظهراتها في أفراحها وأتراحها ومختلف تجلياتها.

تلك الرسوم التي فتحت الوعي الوطني على ما به نتميز وما يفرزنا عن سوانا لنكون في مستوى قطر أو أمة قائمة بذاتها تتوفر على ما لا يتوفر عليها غيرها وتتميز بما لا يتميز به سواها.

لقد تم استدعاء العادات والتقاليد ومختلف أشكال الممارسات اليومية في حياة التونسي كمؤدب الصبيان وحفل الختان أو الزفاف أو اجتماع الرجال في المقاهي للعب الورق أو تحلقهم حول لعبة شعبية.

فكان يعمد إلى رسم شخوص يلبسون اللباس التونسي الأصيل المميز للهوية والمؤكد على الشخصية التونسية.

فاستدعاء التراث عند الزبير التركي يتجاوز دغدغة  المشاعر واستحضار صور من الماضي ليضطلع بوظيفة بناء الشخصية ونحت الكيان والتأكيد على الهوية .

لقد أكد باني الدولة الحديثة على هذا التوجه في خطاب ألقاه في المنستير يوم 29 جويلية 1967 حيث قال:
      "لطالما صرفت كبير اهتمامي إلى ميادين الثقافة والأدب  والفن باعتبارها من مقومات الشخصية التونسية التي نعمل على بعثها من جديد في هذه التربة الخصبة، بعد مضي قرون من التدهور والانحلال...

هذا ما جعلني  أولي الميدان الثقافي اهتماما كبيرا فالي جانب ميلي إلى الادب والشعر والفن والجمال أردت أن الفت نظر الشعب  إلى أن النمو لا يتأتى ولا تتوفر أسبابه إلا بالنهوض بالإنسان في كل نواحي الحياة.

فالعناية بالأدب والشعر والفن والرسم ومختلف العلوم والالتفات إلى المجهود الاقتصادي  لتعميم  الخيرات كل ذلك يستهدف الرفع من مستوى الأمة حتى تكون في مأمن من كل عدوان ".

ها هنا نتوقف على مفهوم آخر لتوظيف التراث ألا وهو تحصين الشخصية التونسية وحمايتها من التلاشي والاندثار والذوبان في الآخر.

لا تحتاج الدولة الناشئة للجماليات إلا من حيث قدرتها على خدمة توجهاتها العامة وتركيز تصور بناء الإنسان التونسي ونحت شخصيته.

لعلّ هذا يفهمنا ما ألمح إليه علي اللواتي في معرض حديثه  عن الزبير التركي (5).
ولا غرابة أن يختار الزبير التركي أشخاصا هم أقرب إلى بيئته وإلى وجدانه وذاكرته مثلما اختار عمار فرحات نوعية أخرى من الأشخاص وطريقة أخرى في التلوين والرسم ومقاربة عوالم الفن، ذلك أن الفن هو رؤية للعالم وموقف أنطولوجي يحدّد الخيارات الحضارية والموقف من العالم فلئن بدت شخصيات الزبير التركي هادئة، مطمئنة تكاد تكون كاريكاتورية  فإنما ذلك الخيار ليبعث الفنان في نفس المتلقي  شخصية قادرة  أن يقع تقبلها والتعامل معها من منطلق الانبساط لا التوتر ومن زاوية الهدوء لا التشنج.

كأنه يقدّم مقاربة لشخصية التونسي لا تخضع لتصوّر قبلي ولا تستجيب لشروط مخيّله وإنما تنطلق من بيئة معلومة وفي زمان معلوم حتى أنه إذا اختار عناوين لوحاته لم يتقصر ولم يطلق عليها تسميات فصيحة بل مستوحاة من البيئة وكما ينطقها  أهلها ( 6) وفي ذلك أكثر من دلالة، إنها الرغبة الواعية في الغوص في البيئة المحلية والنفاذ إلى عمقها.

يبقى السؤال عن سرّ محليّة الزبير التركي وبقائه في محليته تماما كرسمنا وكراسمينا... ربما هذا الأشكال يتجاوزه هو ويتجاوز الرسم في بلادنا ليكون مشكلة الثقافة العربية والواقع إلي تمر به أمتنا المهزومة ذلك أن الغالب مولوع بتقليد الغالب  أو لنقلها صراحة : حيلة الأقوى دائما هي الأفضل.


الهوامش والإحالات

1)... لا بد أن  نعتبر أن تونس –وإن كانت جزءا من مجموعة ثقافية كبرى – مسؤولة عن هذه الثقافة، مطالبة بالنهوض بأعبائها منفردة  وبالتضامن مع سائر الشعوب العربية معا  وهذا  يفضي بنا إلى وجوب تركيز المسؤولية،ذلك أن كل قطر عربي لا بد أن يعتبر نفسه مركزا من مراكز الثقافة العربية ( الثقافة رهان حضاري، الشاذلي القليبي 
                                               الدار التونسية للنشر 1978 وهو عبارة عن
                                                        كلمة ألقيت في لجنة الدراسات الاشتراكية
                                                        سنة 1967 بدار الثقافة ابن خلدون- تونس)
                                                        تحت عنوان من مشاكل الثقافة)

2) المرجع نفسه ص 106 من كلمة ألقيت بلجنة الدراسات التابعة للحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1968.

3) أعضاء مدرسة تونس هم:
      بيار بارجول- علي بلاغة – جلال بن عبد الله – بيار بوشارل-  الزبير التركي – الهادي التركي – يحي التركي – حسن السوفي – عمار فرحات – صفية فرحات – عبد العزيز القرجي – عبد القادر القرجي- إبراهيم الضحاك – جول للوش—موزامس ليفي.

( انظر الكتالوق الذي أصدره  المركز الثقافي للفن الحي لمدية تونس بمناسبة معرض جماعة مدرسة تونس عدد 2  تمت).

4) علي اللواتي:"وحيث أن الحركة الفنية الجديدة قد انشقت تحت شعار الوفاء للمقاييس الأكاديمية  فإنها حافظت  لزمن طويل على تلك الروح الإقليمية الضيقة والمنغلقة عن  تيارات التجديد التي كانت تشغل دوما العاصمة الفرنسية وكان  لانقطاع الفن الاستعماري عن الحركات الأوروبية بصورة تامة أو تكاد أثر في عجزه لمدة طويلة عن فهم الواقع المحلي خارج أنماط الاستشراق المحتضر كصور البدوية والعميان والمتسولين وغيرها.

( انظر: الرسم في تونس منذ البدايات إلى اليوم).

5) كما تجدر الإشارة إلى عالم الزبير التركي  الذي يستمد عناصره من التجربة الإنسانية اليومية ويكرس الإنسان كعنصر أساسي للتعبير عن إطار روائي يستلهم   الواقع مبدئيا ولكن يخضع أيضا إلى منطق شكلي مستقل قوامه أسلوب تخطيطي بارع ومتميز".

( انظر: الرسم من تونس منذ البدايات إلى اليوم )


6)   عناوين لوحات الزبير التركي:
أكابري، الرجوع للدار، مولاة الدار، صنايعي، قهواجي، بسيسة، شيخ، لعب كارتة، مفتي حانفي، عدل، ........، نساء، جميلة، غسالة صابون، شيخ، عمار فرحات، حلم تحت القوس، باب الحس، بياع فرملة، بياع ياسمين، ساحلية، راجل في يده مروحة، قريتنا، الحماص، كمية، ضبط ظرفي، راجل معنقر مشموم، سبعة الحية، زينة،  هباط، الكمنجة، مرا شادة مروحة، زوز أصحاب، بلالط، عم خميس، درابكي، مرا في يدها نوارة،  فخاخري.


تعليقات